عندما تفقد الصحافة أخلاقها

TT

أزمة إمبراطورية «نيوز كوربوريشن» الإعلامية ومالكها الأميركي الأسترالي روبرت مردوخ التي هزت بريطانيا وامتدت تداعياتها عبر ثلاث قارات، ليست مجرد أزمة صحيفة أصابها الغرور وأعماها الركض وراء الإثارة، بل هي أزمة تتعلق بصميم أخلاقيات الصحافة ومستقبل المهنة.

هل نحن بمعزل عن هذه الأزمة؟

بالتأكيد لا.. والسبب في ذلك لا ينبع من أن مردوخ وإمبراطوريته لهما استثمارات في العالم العربي، بل لأن صحافتنا - ولنقُل إعلامنا - لها أمراضها ومشاكلها، وقد تستفيد من دروس الأزمة البريطانية التي أدت، حتى الآن، إلى إغلاق واحدة من أكثر الصحف توزيعا، وإلى سقوط رؤوس كبيرة في واحدة من أضخم المؤسسات الإعلامية، وإلى اعتقال صحافيين بارزين، أحدهم كان مديرا لدائرة الاتصالات في مكتب رئيس الوزراء البريطاني. كما أدت الأزمة المتفاعلة إلى استقالة اثنين من أكبر رجال الشرطة البريطانية، وإلى تحقيق برلماني، وتحقيق في الشرطة، واستفسارات من أجهزة العدل الأميركية، وإلى دعوات لتصحيح مسار الإعلام، وبحث كيفية انضباطه.

فالإعلام ليس مجرد صناعة تمتد قوتها ونفوذها من قدراتها الربحية والتوظيفية والخدمية، على غرار الكثير من الصناعات الأخرى، بل هو أداة من أدوات السلطة وأركانها المهمة؛ لذلك يطلق عليه «السلطة الرابعة»، من واقع امتلاكه قوة تأثير هائلة على السياسة والاقتصاد، والأهم من ذلك كله على الرأي العام. فهو لا ينقل المعلومات ويسجل الأحداث فقط، بل يؤثر فيها تأثيرا مباشرا، من خلال تأثيره على الرأي العام وفي تشكيله. وقد لخص برلماني بريطاني سابق القوة المتزايدة للإعلام في تحليله للمواجهة الحالية بين المؤسسة السياسية وإمبراطورية مردوخ بقوله: «إن السياسيين ربما يشعرون بالغيرة من الصحافيين الذين سلبوهم الكثير من النفوذ».

هنا تكمن المشكلة. فليس هناك أخطر من غرور القوة، والقوة الفالتة تحمل في طياتها بذور الفساد والاستبداد. والإعلام اليوم يملك قوة هائلة ونفوذا متزايدا، أكثر من أي وقت مضى، وذلك في عالم معقد تتشابك فيه المصالح وتتقاطع السياسة مع المال والإعلام بشدة. والصحافة التي تحاسب الآخرين، وتفرض نفسها رقيبا على السياسيين والشخصيات العامة، تنسى أحيانا أنها أيضا مساءلة، وأن قوتها المتزايدة تفرض عليها مسؤوليات أكبر، ولا تضعها فوق القانون. وقد أثبتت التجارب العملية أنه لا يمكن لأي سلطة أن تكون هي الرقيب على نفسها، بل تحتاج إلى رقيب آخر. وهنا تبرز المشكلة بالنسبة لحرية الصحافة وتحتدم المعركة بين ثلاثة تيارات، الأول يرفض أي تقييد لهذه الحرية ويرى أن أي محاولة في هذا الاتجاه ستعوق عمل الصحافة في كشف الحقائق وتوفير المعلومات للناس، والثاني يرى أن الصحافة فشلت في أن تكون رقيبا على نفسها وجنحت أحيانا في ممارسة سلطتها؛ لذلك لا بد من قواعد وقوانين منظمة حتى لا تكون حرية الصحافة على حساب الحريات الشخصية للناس، ولا تكون سلطتها مقوضة لبقية السلطات الأخرى في أركان الحكم. أما التيار الثالث فيعترف بأن الصحافة ارتكبت أخطاء في ممارستها لحريتها، وتجاوز بعضها القانون والضوابط الأخلاقية في الركض من أجل الإثارة أو السبق الصحافي؛ لذلك فإنه لا بد من تعزيز الضوابط الأخلاقية للمهنة، ومن إيجاد آليات لفرض هذه الضوابط بطريقة فعالة.

قد يقول قائل: إنه لا مقارنة بين إعلامنا وإعلامهم؛ لأن إعلامهم حر وإعلامنا مقيد. وهناك عذر بالتأكيد لمن يرى ذلك، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن إعلامنا على الرغم من مشاكله كلها ليس بلا نفوذ، وأنه يمارس ضمن الحريات المتاحة وتحت سقف القيود تأثيرا كبيرا على الرأي العام، سواء أكان ذلك على طريقة إعلام أحمد سعيد ومحمد سعيد الصحاف، أم على غرار الدور الذي قام به الإعلام خلال الانتفاضات والثورات العربية المستمرة، سواء لجهة شحنها ودعمها، أو لمحاولة إحباطها، وهو دور يحتاج إلى دراسة متعمقة عندما يهدأ الغبار وينقشع الضباب.

كما أن الذين يعملون في هذه المهنة وعايشوا تحركاتها وتطوراتها خلال العقود الماضية يعرفون حجم التغيرات التي طرأت عليها، وربما يشهدون أنها اكتسبت، بدرجات متفاوتة، حريات أكبر مما تمتعت به في الماضي، وعرفت نفوذا أقوى مما عرفته في السابق. يعزى ذلك إلى التغير في المجتمعات وفي الذهنيات، وبدرجة كبيرة إلى ثورة الاتصالات والإنترنت التي أسقطت الحدود بمفهومها التقليدي، وأنهت وظيفة الرقيب، ووفرت حرية في الوصول إلى المعلومة التي بات من الصعب حجبها. ومع الحريات المتزايدة في الفضاء المعلوماتي والثورات والانتفاضات التي أبرزت دور الإعلام وأهميته، سيكون هناك نقاش حتما حول دور إعلامنا ومستقبله، خصوصا أن الكثير من الدول تنظر في تعديل قوانينها لمواكبة الإعلام الفضائي والإنترنتي، كما أن الدول التي تشهد انتفاضات وثورات ستعمل مستقبلا، إذا اكتملت عملية التحول الديمقراطي فيها، لوضع قوانين وضوابط جديدة منظمة للإعلام تحل محل القوانين والمؤسسات القديمة، علما بأن الإعلام عندما فقد بوصلته فإنه أسهم في تقويض ديمقراطيات وليدة (مثلما حدث في السودان إبان تجربتين ديمقراطيتين) أو في إشعال حروب أهلية في منطقتنا (مثلما حدث في لبنان)..

لذلك فإن الجدل الدائر الآن في بريطانيا حول أخلاقيات المهنة، وحرية الصحافة، قد يقدم دروسا مفيدة لنا في مقبل الأيام. وإذا كان هناك من يقول إن الأزمة في بريطانيا تتعلق أساسا بصحف الإثارة التي لا تلتزم بأخلاقيات المهنة، مما جعل بعض السياسيين البريطانيين يصفها بـ«صحافة المجاري»، فإننا عرفنا أيضا في العالم العربي ممارسات ما يسمى «الصحافة الصفراء». لدينا كذلك صحافيون أسكرتهم سلطة الصحافة، وآخرون أغواهم المال، وقلة حولوا الصحافة إلى دكاكين يبيعون فيها بضاعتهم لمن يدفع.

الصحافة تبقى دائما مرآة للمجتمع، ومن هذا المنطلق لا أشك في أن الصحافة البريطانية ستتعلم من الأزمة الراهنة وستوجد آليات وضوابط تمنع التجاوزات والخروج على أخلاقيات المهنة. كما أن القانون الذي يعلو على الجميع سيتكيف مع التغيرات في عالم الاتصالات والإعلام، ليحمي المجتمع وخصوصيات الأفراد. الصحافيون يحلو لهم دائما انتقاد القيود على حرية الصحافة، ومع إيماني الشديد بأهمية الصحافة الحرة إلا أنني لا أعتبر الصحافة فوق القانون، وأرفض انحرافها عندما تفقد بوصلتها أو أخلاقها. ولأن الصحافيين بشر وليسوا ملائكة، فإنهم يحتاجون إلى آليات تضمن التزامهم بأخلاقيات المهنة وتمنع استغلالهم للنفوذ الكبير الذي يتمتع به الإعلام.

[email protected]