جمهور الثورات

TT

هل يمكن اختزال تجربة الثورات العربية في ثورة مصر التي بدت «أم الثورات»؟ أم أن لكل من الثورات العربية، المنجزة منها والتي ما زالت تصارع البقاء، خصوصيتها وسياقها المختلف؟

البداهة تقول إن مثل ذلك الاختزال لا يمت لقراءة الواقع وفق أدوات عقلانية بصلة، لكن مثل هذا الاختزال يسود الآن مشهد قراءة الثورات، كما المتابعة والاهتمام بالتفاصيل، ليس فقط من «جمهور الثورات»، وهم شريحة عريضة من المؤمنين بالثورة بشكل متعال ميتافيزيقي يخرجها من إطار الزمان والمكان، ويجعلها عصية على النقد أو المساءلة، ويلتمس لأخطائها وعثراتها الأعذار والمبررات.

«جمهور الثورات» - عادة - انتقائي في دعمه ومتابعته للثورة، فهو لا يكاد يبالي بأحداث اليمن، حتى لو كانت تمسه بشكل قريب، ومتحفظ على ما يجري في سوريا على مضض، على الرغم من أنها بدأت تتخطى مفهوم الثورة إلى الكارثة الإنسانية ونزاعات الإبادة، والأكيد أنه غير معني كثيرا بتونس إلا من حيث صعود قوى سياسية كانت مغيبة، لأنه يتفق معها آيديولوجيا، وفي النهاية هو متابع جيد لكلمات الرئيس الليبي الظاهرة؛ بسبب مضامينها الفكاهية، أكثر من كونه مهتما بالحالة الليبية وسيناريوهات ما بعد القذافي، ومدى قدرة المجلس الانتقالي على إيجاد صيغة توافقية.

يمكن القول إن «جمهور الثورة»، ممن هم خارج ملعبها، بدأ ينتقل إلى تكنيك الفرجة بعد أن كانت حماسته في تعميم التجربة، والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة الإعلام وتأثيره الكبير في تقديم الثورة كما ونوعا، الإعلام يهتم بجذب المشاهد، وهي مسألة أولوية في أهداف أي جهة إعلامية، هذا الجذب يعني في مفهوم «الخطاب»، كما تطرحه العلوم الإنسانية، الاهتمام بالمثير ولو كان هامشيا، وتجاهل الأحداث الباهتة والمملة ولو كانت مفصليا، بمعنى آخر إن الثورة على الأرض، بما تعنيه من مفهوم وقوى فاعلة وحراك اجتماعي وخطاب سياسي، ليست منقولة في الإعلام إلا من حيث قدرتها على إثارة المشاهد العادي من خلال بحثها عن النجومية.

وبالتالي ففي كل مرة تطل شخصية نجومية على وسائل الإعلام، وتدلي بتصريحات مثيرة حول الثورة تفتح ملفات فكرية كثيرة بسبب تلك الضجة الإعلامية، مما يعيد التساؤل من جديد حول مدى جدية وترسخ بعض المفاهيم العامة في المشهد الثقافي لدينا؛ هذه المداخلات الملتهبة باتت أشبه بالمعدة سلفا؛ بسبب غلبة الصناعة التسويقية على وسائل الإعلام على حساب جودة المحتوى، كأحد مظاهر التنافسية الشديدة على جذب الإعلان، من خلال المشاهد الذي بات أسيرا لسلطة السوق.

الضحية في كل مرة يكون الحلقة الأضعف، بحسب المنطقة الحساسة التي يتناولها الضيف، فإن كانت الموجة قومية أو إسلاموية، كان الهجوم مركزا على كل التيارات التي تقف موقفا نقديا من الفكر الشمولي عموما؛ بدعوى مهاجمة الليبرالية، وهي معركة أصبحت رابحة للجميع، حتى من أنصاف الليبراليين، أو حتى المتهمين بالليبرالية من أطراف أخرى، مع كونهم يتنصلون منها بمناسبة وغير مناسبة، وهذا ما يعيد إلى الأذهان تهمة «العمالة» وتفرعاتها التي كانت سهما مصلتا، في السابق إلى ما قبل سقوط المعسكر الأحمر، في حين أن كل هذه التمظهرات للحالة الفكرية التي يتسم بها مشهدنا المحلي أو العربي، لا يمكن أن تتلون بلون واحد ولا ينبغي لها ذلك، لأن هذا التنوع هو جزء من حيويتها وبقائها على قيد الحياة. إن الإشكالية الكبرى تكمن في أن جميع الأطراف، وأنا لا أستثني من يقال إنهم ليبراليون لديهم حساسية مفرطة من «النقد»، فكل حالات التشنج والخصومة الفكرية التي تتخذ أشكالا متعددة، تبدأ بإطلاق الاتهامات العامة جزافا، ولا تنتهي عند محاولة اللعب على مفاهيم كبرى، مثل الهوية والأهداف القومية والثوابت… إلخ.

ومثلما كان الحديث عن ثوابت الأمة من قبل «الجمهور»، فهو حديث رائج وبقوة الآن لدى «جمهور الثورات»، حيث نرى العزف على وتر الثوابت والمقدسات للثورة من جهة، أو المواطنة والانتماء من جهة أخرى، هو في كثير من الأحيان رغبة ملحة في الجمود وتكريس السائد، وهنا يكرر كثير من المنتمين لهذا التيار أو ذاك نفس الأخطاء، حيث يتم رفض أي فكرة نقدية لمجرد أنها لا تتفق وأهداف الثورة، من وجهة نظر قائليها، بينما يتم تمجيد الشعارات الثورية فقط لثوريتها لا لمضامينها.

منطق الثورات مختلف تماما عن خطاب جمهورها، وكلاهما يؤكد أن إحدى أهم معضلاتنا في صراع الأفكار، هي ثقافية أكثر من كونها سياسية، أزمتنا أزمة حداثة، وهي معضلة ثقافية وفكرية بامتياز. الحداثة حالة وليست قوالب فكرية جاهزة ومصممة للاستهلاك.

إن المشكلة دوما تبدأ من المفاهيم الأساسية التي تشكل الخلفية التي ينبني عليها الواقع، والبنية التي تشكل عمق الممارسات، فمشكلتنا مع «النقد» في الأصل مفاهيمية قبل أن تكون تجربة لم نعتدها، أو أداة لم نمارسها، فنحن إذن أمام فهم متجذر في ثقافتنا العربية، وله امتداده التاريخي. فالعملية النقدية في المخيال الثقافي ترادف الهدم والإلغاء والسلب، ومحاولة القفز على المكتسبات التنموية، أو إيجابيات الفكرة والمؤسسة والتيار، ووضع بدائل مضادة تقوم، في حقيقتها، على القطيعة مع الأساس المنتقد، ويتعمق هذا الفهم مع كثير من الممارسات الخاطئة التي نلحظها مع أي حدث سياسي أو فكري، مما يجعل كثيرا من المتابعين يتنبأون بما سيقال؛ لأنه في الغالب يأتي كنوع من تصفية الحسابات بين التيارات المتصارعة، وليس انطلاقا من حقيقة النقد، التي تعني في جوهرها البحث عن كل الفرص والإمكانات القابعة في الفكرة، ومحاولة استنطاقها، وإعادة إنتاج السلبيات من خلال تشخيص مكامن الخلل والقصور، والأداة النقدية حينئذ ليست معنية بالحكم القيمي، أو التحيز إلى موقف الـ«مع» أو الـ«ضد» بشكل مطلق، الذي حول سياق الثورات من ميدان السياسة إلى ما يشبه الحروب المقدسة!

[email protected]