غباء التوريث يودي بلبنان

TT

حقا لقد طفح الكيل، وبات على الشعب اللبناني أن يتحرك.

منذ يومين، وفضا لخلاف حكومي لبناني، إثر غضب النائب الدرزي طلال أرسلان بسبب تعيينه وزيرا من دون حقيبة، مما لا يليق بمكانته، تم تسوية الخلاف باستبداله بشقيق زوجته مروان خير الدين كممثل للحزب الديمقراطي اللبناني في الوزارة الميقاتية. واختيار أرسلان لنسيبه وليس أي عضو آخر في الحزب أمر لم يستوقف أحدا، كما أنه لم يثر أي مشاعر ضيق أو اعتراض، لا داخل الحزب على ما يبدو ولا في أوساط الشعب اللبناني الذي ألف التوريث حتى بات من ثوابته.

كان الأمر يتوقف على توريث الأولاد كما هي حال العائلات السياسية الإقطاعية مثل آل جميل وشمعون وفرنجية ومؤخرا الحريري، فصار الأصهار بدائل للأولاد الذكور حين يعز وجودهم. وبالتالي، أصبح جبران باسيل، صهر الجنرال عون، واجبا وطنيا في كل وزارة يشارك فيها التيار العوني، بحيث يستعصي حكم البلاد من دون بركته. وورثت نايلة التويني كرسي جدها غسان ومن ثم والدها جبران في المجلس النيابي، ليكتشف ناخبوها أن حملتها التي قامت على ركيزة أساسية وهي الوجود المسيحي وحقوق المسيحيين في لبنان، لم يكن لها من معنى من فتاة كانت حينها واقعة (سرا) في غرام شيعي، لتتزوجه بعد فوزها مباشرة، زواجا مدنيا، وتظهر وجهها التعايشي السمح، الذي لا يشبه على الإطلاق نبرتها التعصبية في خطابها الانتخابي.

ولو وقفت الأمور عند هذا الحد، لشفع الحب للنائبة الشابة، لكنها اختفت عن الساحة السياسية كليا، وبات الاتصال بها حتى من زملائها في الكتلة البرلمانية عسيرا. ولم تسأل النساء أنفسهن لماذا يحق للنائبة تويني أن تتقاعس عن عملها وتجلس في منزلها لتربية طفلها الوليد بوداعة تحسد عليها، وهي تتقاضى أجرها كاملا من جيوب الشعب، بينما لا تستطيع أي امرأة موظفة مهما صغر مرتبها، أن تتغيب عن عملها لينعم أولادها بالدفء نفسه، ويوافق الشعب على دفع تكاليف راحتها. ولو خطر للسيدة نايلة أن تترشح لمرة جديدة، فعلى الأرجح لن تجد من يحاسبها على تغيبها عن عملها، أو صم أذنيها عن مطالب ناخبيها طوال السنوات الفائتة. فالشعب لا يحاسب ولا يعاتب، مما يجعل استهتار مسؤوليه السياسيين بمكابدته اليومية بديهيا. فالحقوق تنتزع ولا تعطى على طبق من ذهب.

وأسوأ من كل ما ذكرنا، هو تأخير تشكيل الحكومة بسبب رغبة القريبين اللدودين من آل كرامي فيصل وأحمد في الاستوزار، الى ان اضطر رئيس مجلس النواب، توزير فيصل كرامي على حساب الحصة الشيعية. لكن المسألة لم تحل كليا، اذ ان كراميا ثالثا هو عم فيصل استشاط غضبا، لأن ابنه كان أحق بالوزارة في رأيه من فيصل. وهكذا كان آل كرامي وحدهم بحاجة الى ثلاثة كراسي وزارية في حكومة واحدة على ما يبدو، لحماية إرثهم السياسي العريق. فما هي حصة باقي العائلات يا ترى؟

التوريث الذي بات عارا في مصر وتونس، ومرفوضا ولو ببذل مئات الشهداء في اليمن وسوريا، لا يزال مرحبا به في لبنان، ومقبولا كقدر لا مرد له. ويسجل للطائفة الشيعية أنها تخلصت من التوريث الإقطاعي السياسي الذي استعبدها لأكثر من قرن، وهو ربما ما يشكل جوهر قوتها اليوم، بينما لا تزال الطوائف اللبنانية الأخرى تعيش في أغلاله، برضا الرعية وتشجيعها.

التوريث في السياسة، ينعكس فسادا وطغيانا وسرقة في كل مرافق الدولة، وينسحب على المهن الأخرى لسوء الحظ. فأمر لا يصدق، على سبيل المثال لا الحصر، أن المادة 11 من النظام الداخلي لنقابة محامي الشمال تنص على أنه «يعفى من اختبار كفاءة طالبي الانتساب، أبناء المحامين حصرا ويستعاض عن الاختبار الخطي بمقابلة مع مجلس النقابة». وهو ما يؤمن لأبناء المحامين الانتساب للنقابة، بمجرد لقاء أصدقاء الوالد أو الوالدة. وهو ما يعتبره البعض طبيعيا، لأن أولاد المحامين يتهيئون نفسيا بمعايشة عائلاتهم المنخرطة في الأجواء القانونية. ولا يسأل هؤلاء ما ذنب المحامي النابغة الذي يرسب في امتحان دخول النقابة لأنه لا يجد من يتوسط له أو يشد أزره، مقابل تمهيد الطريق لأصحاب السلالات القانونية الصافية!

وما تشهده النقابات المهنية لا تشذ عنه المهن الفنية. فعندما سألنا عن سبب تردي مستوى مسرحية «من أيام صلاح الدين» الغنائية التي افتتحت بها مهرجانات بعلبك، قيل لنا ببساطة إن والدي المخرجين هما جزء من لجنة المهرجانات وإن خلافا دب داخل اللجنة بسبب الاعتراض على مستوى العمل، وإن ما يزيد على خمس استقالات قدمت احتجاجا داخل اللجنة، ومع ذلك بقي الإصرار على تبني المسرحية والسير بها حتى النهاية.

وليس فقط أن أبناء الكتاب والصحافيين باتوا مصرين على كتابة الشعر والرواية، سواء كانوا موهوبين أم لا، عملا بمقولة «فرخ البط عوام»، بل إن الأهل يقابلونهم بمقولة أخرى أشد فتكا وهي أن «القرد في عين أمه غزال»، ويروجون لهم في كل وسيلة إعلامية ومؤتمر. وعملا بهذا المثل المدمر، بات كثير من الممثلين يأتون بأولادهم إلى التلفزيون ليتقاسموا معهم الأدوار وكأنما نضبت الطفولة إلا من فلذات أكبادهم. ولا داعي لذكر الأسماء، لأن المشاهدين يعرفونهم جيدا.

ومع بداية الصيف، جاء مارسيل خليفة ليحيي حفلا وسط بيروت برفقة ولديه رامي وبشار. ولا أحد يشك في أن ولدي مارسيل خليفة موهوبان في العزف، لكن الناس جاءت تسمع مارسيل فإذا بها تفاجأ بالولدين يحتلان الساحة، ويضعان الوالد في الهامش، في حفل من المفترض أنه بطله الرئيسي، حتى أخذ الحاضرون يطالبون بنجمهم، بينما واصل الولدان الشابان مقطوعاتهم، وكأنهما لم يسمعا شيئا.

خلط العائلي بالمهني أصبح جزءا من الفساد المستشري الذي تتوجب مكافحته بكافة السبل. وإن كان ثمة من يرى أن دعم الأبناء والأصهار وباقي أفراد العائلة والدفع بهم إلى المقدمة بتوسل كل الأساليب الممكنة، بما فيها استغفال الناس واستغلالهم والدوس على قدراتهم ومواهبهم لصالح الأقرباء من ضرورات النظام الغبي الذي نعيش فيه - فإن المسؤولية، تقع على كاهل المستغفلين والمقموعين، لا على عاتق المتسلقين غير الشرعيين الذين تمهد لهم السبل وتزين بالورود وسط التصفيق والتشجيع. ففي النهاية «كما تكونون يولى عليك».