ساخر من السلطة

TT

الجزائريون والعراقيون ليسوا من الأقوام الذين اشتهروا بالفكاهة كالمصريين، لكن تاريخهم حافل بالأدباء الساخرين والفكاهيين. يكفينا أن نتذكر من العراق أبا نواس وابن الرومي. ومن الجزائر خرج ذلك الأديب الساخر الذي قلما يتذكره الناس. أعني به عبد الله بن محمد الوهراني. رحل كمعظم أدباء المغرب إلى المشرق واستقر في القاهرة في عصر صلاح الدين الأيوبي. وجد في عالم الفكر والأدب ما نجده في هذه الأيام في عالم أدبائنا وشعرائنا من نفاق ووصولية وتملق. فأثار ذلك قريحة السخرية والتهكم في نفسه. فكتب الكثير من الرسائل والمقامات والنقد على هذا الصعيد.

كان من أول ما لفت نظره انتشار عادة الاستجداء والتملق والوقوف على أبواب ذوي الشأن والسلاطين. كتب في هذا المجال المقامة التي وصف فيها حاجة بغلته إلى كرم الموسرين والمتنفذين. قال فيها:

«انصرف الشيخ منكسر القلب، مغتاظا من الثلب. والتفت للمسكينة (بغلته) وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة. وقال لها: إن شئت أن تكدي فكدي، لا ذقت شعيرا ما دمت عندي. فبقيت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة. فقال لها العلاف: لا تخرجي من حباله، ولا تبعدي عن سباله، ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكون عندك أحسن من عنقفته! هذا الأمير عز الدين، سيف المجاهدين، أندى من الغمام، وأمضى من الحسام، وأبهى من البدر ليلة التمام. يرثي للمحروب، ويفرج عن المكروب، وهو من بني أيوب، لا يرد قائلا ولا يخيب سائلا.

فلما سمعت المملوكة هذا الكلام، جذبت الزمام، ورفست الغلام، وقطعت اللجام، وشقت الزحام وطرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي، والسلام».

وكان بذلك عبد الله الوهراني يسخر من عز الدين موسك، أحد كبار الدولة. فعنونت له البغلة رسالة استعطاف على أسلوب ذلك العصر:

بسم الله الرحمن الرحيم. المملوكة «ريحانة» بغلة الوهراني، تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام، أكبر المؤمنين، نجاه الله من السعير، وعطر بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير، وساق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح الأدعية من الجم الغفير، من الخيل والبغال والحمير، وتشكو مما تقاسيه من سوء القيام، والتعب في الليل والدواب نيام. قد أشرفت مملوكته على التلف، وصاحبها لا يحتمل الكلف...

وتمضي البغلة في الاستجداء من الأمير.

وسخر الوهراني من أدباء عصره. ومن ذلك شاعر يدعى الكندي تفاخر بنفسه فقال: سبقت إلى غايات كل فضيلة... إلخ. فاستدعاه السلطان ليثبت مقولته، وكلما أخفق فيها أمر الحاجب بصفعه حتى ضاق ذرعا به: «أي شيء تعلم حتى تقول سبقت لكل فضيلة»؟ فيجيب: أعلم النحو والصرف. فيقول له السلطان: ولأجل النحو والصرف تقول سبقت لكل فضيلة؟

وما أصدق ما قال!