الأبقى

TT

ما تشهده بريطانيا اليوم يتعدى إمبراطورية السفاهة والسقط، التي أنشأها روبرت مردوخ، إلى مسألة القانون والحريات في بلد اشتهر عبر قرون بنزاهة القضاء. عندما وصلنا إلى بريطانيا عام 1978 طالعتنا إقالة رئيس الشرطة، وقلت لزوجتي: سوف يكون هذا وطننا. وقبل أيام استقال رئيس اسكوتلنديارد ونائبه. لكن القانون في بريطانيا كان قد شهد تدهورا شديدا عما كان عليه 1978. فقد تفجرت قضية مردوخ بعدما خرب بيوتا كثيرة ونهش لحما كثيرا وعلك عظاما كثيرة.

القانون يجب أن يحضر أولا وليس أخيرا. وقد تغاضى القانون البريطاني طويلا عن الإهانات التي لحقت بكرامات عربية كثيرة عندما لجأت مطبوعات سوقية إلى ابتزازها. وكان القانون يعرف جيدا طبيعة المبتز وطبيعة ضحاياه. كما ترك القانون رجالا مثل أبو حمزة المصري يشوهون صورة العرب ومعاني الإسلام طوال سنين قبل أن يقرر معاقبتهم.

منذ متى يعرف القانون البريطاني بأمر روبرت مردوخ؟ ألا تذكّر صورته مع ولديه، بصورة روبرت ماكسويل مع ولديه؟ برودة الأبناء أمام التهم تخفف وحدها من جلافة الآباء. يجب أن تطرح قضية مردوخ هذا، قضية القانون في الغرب. قضية المحامين «الكبار» الذين يعرف عنهم أنهم قادرون على المرور من ثقوب القانون من أجل خداع القضاء وتبرئة المجرمين. هكذا حدث مع «أو جي سمبسون» قاتل زوجته وعشيقها أمام كاميرات التلفزيون؛ دفع ثروته يومها لمجموعة من المحامين المنافقين ثم عاد فدخل السجن بجريمة أخرى.

كان لي صديق من المفكرين والسياسيين البارزين في لبنان. وكان سبب صداقتنا اهتمامه بالشؤون الإنسانية. وذات يوم التقيته في باريس، فسألني، هل تعرف محاميا جيدا في فرنسا؟ قلت لا، ولكن في إمكاننا أن نسأل، فما هي حاجتك للمحامي؟ قال إن رجلا من بلدته ضبط يهرب المخدرات، ويريد محاميا يدافع عنه. وكانت تلك آخر مرة ألتقي فيها صديقي السابق. فهو لم ينف عن ابن بلدته التهمة بل أراد أن يدافع عن ارتكابه إياها.

لا يمكن أن نغير في طبيعة عمل المحامين. لكننا على الأقل نستطيع أن نتخذ موقفا شخصيا من بعض وسائلهم. وكما أن السقط في العمل الصحافي لا يغير المهنة، كذلك عمل بعض المحامين، أو المهندسين الذين يتركون المباني تسقط على ساكنيها، أو الأطباء الذين يموت الناس بين أيديهم بدل أن يصحوا. لا يبتعد العقاب كثيرا. لعل روبرت مردوخ يعمد الآن إلى إحصاء ضحاياه وكيف ازدهرت ثروته من بؤسهم. لعله يتذكر عدد الذين طردوا من أعمالهم أو نبذتهم عائلاتهم. لماذا لا يتظاهر ضحاياه أمام مجلس العموم، ليس من أجلهم، بل من أجل ألا يظهر في بريطانيا (وأميركا) ذئب آخر يعيش بين ثقوب القانون بدل أن يعيش في ظله.

يكتب قارئ كريم إلى البريد «إنك تكتب كثيرا هذه الأيام عن الأخلاقيات». يا عزيزي لم أكتب إلا عنها، في كل الأيام. أعرف أنها الأبقى، دنيا وآخرة.