سجين بلا محاكمة!

TT

شيء عجيب: إن هذا الإنسان حين يجد لنفسه معنى، فإنه يجعل لحذائه معنى.. كأنه لم يكتفِ بوجوده هو، فأضاف إليه وجودا آخر.. فأنعم على الحذاء بالوجود.. وعندما امتلأ بوجوده، فاض الوجود على حذائه ثم جعل الشارع وجودا ساميا، وجعل للسماء قبة لا نهائية.

شيء عجيب أيضا: عندما أعطيت لحذائي وجودا، لم أعد أشعر به.. كأن وجود حذائي هو الصحوة التي تسبق الموت وبعدها يجيء الموت.

بل إنني أيضا قد تلاشيت. ذبت. انعدمت. كأنني انطفأت.

كأنني عود كبريت اشتعل فجأة فأضاء شبرا من الأشكال والألوان والقطرات ثم مات.

وسحب الوجود معه إلى العدم.. سحب الليل غطاء أسود على وجود عابر.. على جثة عود كبريت!

أو كأنني كنت أسكن في ثوب من الحديد، كما كان يفعل جنود العصور الوسطى.. ثم رفعت الغطاء عن رأسي، وأخرجت رأسي، فرأيت وسمعت.. ثم أخفيت رأسي فاختفى كل شيء من عيني وأذني وأنفي.. وتراجعت ميتا واقفا في كفن الليل!

كأنني عقب سيجارة احترقت فأضاءت بدخانها قطعة من الليل إلى الشارع..

ثم وجدتني فجأة جالسا على حافة بحر.. من المؤكد أنه بحر.. فالأمواج لها هدير.. وهي أمواج من الليل تهدر في الليل وتضرب شاطئا من الليل وتغرق ذرات من الليل.. إنني لم أرَ شيئا، لكني من الذاكرة أعرف كيف تنكسر الأمواج وتزحف على الرمال وتحاول أن تزحزح الصخر والشاطئ.. فلا تزحزحَ الشاطئ ولا عرفت الأمواج اليأس.

وصرخت من أعماقي: يا سيزيف في كل شارع وكل سقف وكل بحر وكل عقل وكل خوف.. ولم أتحرك من مكاني.. لم أنقل قدما عن قدم وإنما رحت أحرك ساقي وأنا في موقعي!

لقد أكلني الصمت.. أو أنا الذي أكلته.. شيء واحد أنا على يقين منه.. هو أنني حتى أتحرك.. أجلس ساكنا أو أتوهم ذلك.

كأنني «توقيع» على لوحة الليل.

هذه اللوحة الرائعة المروعة لجلال البحر وجمال الشاطئ.

فلم تكتمل أبهة الكون حولي، إلا عندما أضافني الكون إلى كل شيء فأضاف المعنى والقلق والحيرة!

إذن لقد صدر حكم ما بسجني على ذمة التحقيق.. أو سجني بلا محاكمة!