تحصيل الزكاة بين سياسة العصا والجزرة

TT

في عام 2008، أعلنت مصلحة الزكاة والدخل في السعودية أن عوائد الزكاة بلغت 6.5 مليار ريال، وكان رقما صادما ومثيرا للاستغراب، من حيث إنه متواضع جدا مقارنة بالمتوقع من اقتصاد بحجم الاقتصاد السعودي. تحسن الرقم قليلا في السنوات اللاحقة، ولكنه لا يزال يثير حفيظة الكثير من المتابعين الذين خرجوا بانطباع عن وجود خلل واضح في نظام جباية الزكاة.

ربما القارئ الكريم في غنى عن سرد منافع الزكاة ودورها في اقتصاد الدولة، ولكن هذه الفريضة التي احتلت الركن الثالث من أركان الدين الإسلامي وقامت على أثرها حروب الردة في صدر الإسلام - يمكنها قلب موازين أي اقتصاد في العالم إن تم استيفاؤها كما نصت عليه الشريعة الإسلامية، لذلك فهي بلا شك تستحق إدارة تحر وتحصيل ومتابعة لا تقل منعة وتمكينا عن إدارات الضرائب في بلاد العالم المختلفة.

يعاقب النظام في السعودية المجاهر بإفطاره خلال نهار رمضان لأنه ينتهك حرمة الشهر الفضيل، وفي شأن الصلاة تجول سيارات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتأكد من إقفال المحلات التجارية وقت صلاة العشاء، على الرغم من أن وقتها طويل وصلاة الجماعة تعقد في أكثر من مصل واحد، ولكنها مظاهر الدين التي تؤخذ بالاعتبار. فإن كان هذا هو الحال حرصا على المظهر المنسجم مع الجوهر، فمن باب أولى مراعاة ما يتعلق بالزكاة، لأن مظهر أرقام إيرادات الزكاة غير مرض، وجوهر فريضة الزكاة لم يتحقق كما يجب.

الخطير في موضوع الزكاة أن التهرب منها ليس عسيرا في وجود النظام الحالي الذي تغيب عنه العقوبة الصارمة والتحري الدقيق، ربما لأن الجهات المعنية ترى فيها تكليفا شرعيا فيعولون على الوازع الديني الذي يدفع المكلف بالزكاة إلى دفعها، لكن هذا عكس ما يحصل في الدول الأخرى التي ترصد للضرائب إدارات قوية مدعومة بأجهزة أمنية خاصة تضمن متابعة لصيقة وملاحقة للمتهربين أو المتلاعبين بحساباتهم. لا أحد يعول على مقدار ما يحمله الناس من مخافة لله تعالى، كما لا يعول على ضمائرهم، فهذا شأن شخصي بين المرء وخالقه أو بين المرء وضميره وإلا لما سنت القوانين ووضعت الأنظمة.

في التاريخ الإسلامي يحتل الجباة مكانة مرموقة ومقربة من الخلفاء والولاة لأهمية وحساسية عملهم، كما يتميزون بمواصفات شخصية كالشدة والقوة والهيبة تؤهلهم للقيام بمهامهم التي يتوقعون خلال أدائهم لها المماطلة والتهرب والتلاعب من بعض المكلفين.

أجدني لا أتفق مع ما ذكرته مصلحة الزكاة والدخل حول عدم وجود تهرب زكوي أو أنه تهرب ضئيل، بدليل أن مسؤوليها اضطروا إلى تصميم نظام جديد للجباية ورفعه منذ 4 سنوات لمجلس الوزراء لإقراره. وهذا النظام الجديد وقائي وعلاجي، وينبئ بتغيير إيجابي كبير في إيرادات الزكاة نظرا لتضمينه خطوات جادة وجريئة، ولعل أهم ما نص عليه النظام الجديد يتعلق بنقطتين؛ أولها فرض الزكاة على أي نشاط يمارس العمل الاستثماري أو التجاري على العقارات والأوراق المالية، والثانية أن النظام لم يكتف بفرض غرامات مالية على المتخلفين، بل حرض عليهم المؤسسات الحكومية الأخرى المرتبطة بمصالح خدمية كوزارة الداخلية ووزارة العمل ووزارة التجارة والصناعة ومصلحة الجمارك. الحقيقة أن الغرامات والعقوبات على الرغم من أهميتها هي مرحلة تالية، المرحلة الأولى والأهم هي التحري عن حقيقة نشاط كل منشأة، بالدقة والتفصيل، لذلك لا يمكن أن تكون الجولات الميدانية المشمولة في النظام الجديد لفحص مستندات ودفاتر وسجلات المكلفين - كافية للحصول على المعلومات الحقيقية، ربما كانت هذه الوسيلة صالحة في زمان يختلف عن هذا الزمان، أما اليوم حيث تتطور وتتشعب وسائل العمل التجاري والاستثماري جغرافيا وتقنيا فستظهر هذه الآلية بطيئة أو عاجزة.

مصلحة الزكاة لها دور رقابي كبير على حركة الأموال، وبالتالي يجب أن تكون وحدها مرصدا ومصدرا لمعلومات الشركات، أي إن ملف الشركة في مصلحة الزكاة والدخل، بما يتضمنه من تفاصيل عن نشاطها وأفرعها وقوائمها المالية، يفترض أن يكون هو الوسيلة الوحيدة التي يتم فيها التعبير عن الشركة أمام الغير، سواء كان الغير الدولة أو البنوك أو وسائل الإعلام. ولن تكون هذه الخطوة سببا في تعطيل مصالح الشركات مع انتهاج مصلحة الزكاة الوسائل الإلكترونية في تسيير أعمالها.

إن المتهرب أو المتهاون في دفع الزكاة فاسد عقائديا، لكنه أيضا فاسد ماليا، وهذا يدخل في خانة مهام هيئة مكافحة الفساد التي يجب أن تصل يدها إلى مكامن الخلل، ومن الحكمة أن تستفيد مصلحة الزكاة والدخل من الاستناد إلى كتف الهيئة القوية والمستقلة.

لقد أثقلت الحكومة ظهرها بدعم القطاع الخاص، من قروض وتسهيلات وإعانات وإعفاءات جمركية لتشجيع حركة التجارة والاستثمار، ولكن الوقت قد حان لإعادة ترتيب الأمور والتعامل بطريقة مختلفة مع الشركات التي تتجاهل واجبها الشرعي ودورها الوطني.