الحكامة الجيدة سمة الديمقراطية الحق

TT

للدولة المدنية الحديثة تجليات تدرك من خلالها. أولها (ولا عبرة بالترتيب) الحرص على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية). وثانيها سيادة القانون، فلا متابعة ولا إدانة إلا بقانون، والمواطنات والمواطنون سواسية أمام القانون. وللديمقراطية هدف أسمى تتجه صوبه باستمرار وتحرص على الحفاظ على حضوره الدائم في أرض الواقع، وهو أن يكون حكم الشعب لنفسه وبنفسه بواسطة الممثلين الذين يختارهم. والمعنيان معا (الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون، والديمقراطية) يطرحان إشكالين اثنين كبيرين ويحملان على رفع تحديين اثنين قويين: هل الذين يمثلون الشعب في المجالس المنتخبة جميعها يمثلونه حقا؟ (بمعنى آخر: هل النزاهة في الانتخابات متوافرة حقا؟). ثم هل هم يمثلونه على الوجه المطلوب؟ (في عبارة أخرى: هل النائب عن المواطن يتمتع بالنجاعة الضرورية للدفاع عن الناخب، وهذا من جهة أولى، وهل النائب يقدر، من جهة أخرى ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه؟). يرى أحد أساتذة السياسة الفرنسيين المعاصرين أن السمة الأولى والشرط الأساس في الممارسة الديمقراطية السليمة هو «تنظيم الفصل بين السلطات» والقصد، طبعا، السلطات الثلاث كما أشرنا إلى ذلك أعلاه.

عن القضايا التي يثيرها الإشكالان المذكوران (توافر دولة المؤسسات، والحرص على سيرها الطبيعي السليم من جهة، وتوافر الضمانات العملية لتحقق الممارسة الديمقراطية الحق من جهة أخرى) يأتي الحديث، في الفقه السياسي المعاصر، عن الحكامة الجيدة (أو الحوكمة، كما يفضل ذلك الإخوة في المشرق العربي). والحكامة الجيدة، في وصفها العام وليس في تعريفها، هي نقيض الفساد، إذ يتعلق بإدارة الشأن العام في مختلف مجالاته. نذكر من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، استغلال النفوذ بغرض الإثراء غير المشروع، التلاعب في مساطر الصفقات العمومية ونموذج ذلك الكشف عن عروض الأثمان المقدمة حتى يكون في الإمكان الاستفادة من أقل فرص الفوز بالصفقات، المحسوبية والزبونية وما في معناهما... وعلماء الاجتماع السياسي يميزون، على العموم، بين «الفساد الصغير» (ومن أمثلثه الواضحة: استغلال المنصب الإداري وتلقي الرشى في مقابل تقديم خدمات عادية أو الإسراع بتطبيق إجراءات تستغرق، عند الممتنع عن الاستجابة إلى التلميح بوجوب ذلك... وما في هذا المعنى). و«الفساد الكبير» (ومن صوره، وهي بدورها كثيرة متنوعة، استغلال النفوذ قصد تسهيل الحصول على وظائف أو امتيازات لا يملك صاحب الطلب الحق فيها إما لانعدام الكفاءة أو الاستحقاق، وكذا كل ما يمكن النفوذ المعنوي من ممارسته. يستحضر القاموس السياسي المعنى الذي يتحدث به ابن خلدون عن الجاه فيكون الحديث في «الفساد الكبير» عن «ريع الجاه»، فالجاه يغدو، بدوره، نمطا من أنماط «الريع». فكما أن هناك اقتصادا ريعيا (تحصيل مداخل قارة دون بذل جهد في المقابل) هنالك ريع يتولد عن الجاه يغني صاحبه عن بذل جهد أو إنتاج. وبالجملة فالفرق بين الفسادين، الصغير والكبير، فرق في الدرجة وليس في الطبيعة؛ كما يقول المناطقة.

لا ينفك الفساد عن الوجود البشري، فلا يكاد اجتماع بشري يخلو منه، وهنالك أمور عديدة تحمل عليه وعوامل موضوعية تعمل على تقويته. من تلك الأسباب ما كان نفسانيا، مثل الميل الطبيعي للإنسان إلى تقريب الأبناء وتفضيلهم على الغير متى كان المرء في حال يمكنه من ذلك، وقد يتسع المدى ليشمل الأقارب والأصهار، والأمثلة على ذلك في وطننا العربي كثيرة متشابهة. ومن الأسباب ما هو اقتصادي (هزالة الرواتب بالنسبة للفئات الإدارية في أسفل السلم الإداري). ومنها ما هو ذو طبيعة اقتصادية - اجتماعية معا، أو قل إن التشوف إلى نمط من العيش يتجاوز الوضع الإداري للشخص، والخضوع لنوع من القهر الاجتماعي يدفع إلى ذلك - وما أكثر كل ذلك في واقعنا العربي. ومن أسباب الفساد عوامل سياسية مثل الحزبية وما يتصل بها، ومن هذه العوامل الأخيرة ما أوصل إلى ردهات المحاكم رؤساء دول ووزراء في أوروبا الغربية وفي غيرها. وحيث كان الأمر كذلك وجب حماية الوجود الاجتماعي بكيفيات أخرى تتجاوز أشكال العقاب التي يشرع لها القانون البشري، لا بل إنها تفلت منها بفعل أنواع عديدة من التواطؤ والتحايل على القانون. وفي عبارة أخرى فإن الشأن العام يغدو مجالا للنهب وأرضا للتزوير. مثلما أن الحقوق التي تتصل بالمساواة، والعدالة الاجتماعية، وبالتالي ترجع إلى الحق كقيمة عليا، تصبح عرضة للضياع.

نقول إذن إن الديمقراطية الحق، في الوجود الاجتماعي المعاصر، أي في استشراء الفساد، أصبحت تستوجب إحداث آليات جديدة. قديما قال فقهاء الإسلام «يحدث للناس من أقضية بقدر ما يحدثون من فجور». تعين إذن ابتكار وسائل وهيئات جديدة تقوم وظائفها على مراقبة السير السليم لمختلف أجهزة الدولة، مما قد يفلت من نظر الهيئات التقليدية المعروفة.

من تلك الهيئات نجد في الديمقراطيات الغربية، المجالس العليا للحسابات ومهمتها الأساسية مراقبة مصاريف الدولة، والمجالس العليا للمنافسة والأخلاقيات التجارية، وقد نذكر أيضا، في فرنسا، المؤسسة التي تراقب أداء مختلف أجهزة الاتصال السمعي - البصري (محطات الإذاعة والتلفزيون المختلفة). هذه المؤسسات، وأمثالها وما في معانيها كثير، يستهدف جميعها إرساء دعائم الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد الإداري والمالي في كل تجلياته.

ما الشأن في بلداننا العربية؟ ما الشأن في مؤسسات الحكامة الجيدة من حيث الإيمان بأهميتها وجدواها، من جهة أولى، ومن حيث الوسائل الفعلية الممكن إتاحتها لها، وهذا من جهة أخرى؟

أما من حيث القول بالحكامة الجيدة، وبالتالي الاعتراف ضمنا، بالفساد واقعا قائما في حياتنا العامة، فإن عددا غير قليل من الدول العربية قد وجد نفسه أمام ضرورة الإقرار به. ضرورة حملت عليها التقارير السلبية للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي وذلك في كل المرات التي كانت تلك الدول تتقدم فيها بطلبات الحصول على قروض من إحدى المؤسستين المذكورتين. يجب الاعتراف، في معرض حديثنا هذا عن الضغوط التي تمارسها المؤسسات الدولية على البلاد العربية أحيانا كثيرة (بل على مجموع دول العالم الثالث)، أن مكاسب للشعوب تأتي، أحيانا كثيرة، من ضغوط مماثلة. ذاك هو منطق الوجود العالمي اليوم. أذكر أن عالم اجتماع عربيا، هو الأستاذ الطاهر لبيب، تساءل في أحد المؤتمرات العربية ما إذا لم تكن الديمقراطية التي تنادي بها الشعوب العربية مطلبا غربيا. ما كان الأستاذ التونسي يقصده بقوله هذا – حتى لا يساء فهمه - هو أن مساندة بعض الأصوات أو الحركات التي ترتفع بالمناداة بالديمقراطية في هذه المنطقة أو تلك إنما يكون لحسابات تدركها تلك الدول بمفردها (أو أن هناك أجندات، كما يقال اليوم ويتردد في صحافتنا العربية). نعم، هنالك في بعض الدول العربية وجود للبعض من مؤسسات الحكامة الجيدة أو التي تطمح في الوصول إليها، غير أن المشكل يقوم في الحضور الضاغط الذي ما تفتأ السلطة التنفيذية تمارسه في تلك البلاد، مما يضيق كثيرا من هامش الحرية الضروري للفعل.

على أن الإشكال، في بلداننا العربية، لا يقوم في الدولة وفي الحضور الماحق لأجهزتها التنفيذية بل إنه يتصل بالمجتمع المدني في الوطن العربي: صورته، عمله، بنيته. ولكن تلك قضية أخرى والقول فيها ذو شجون.