مزارع شبعا.. بحرية

TT

أن تودع إسرائيل الأمم المتحدة رؤيتها لترسيم حدودها البحرية مع لبنان حدث لا يجوز الاستخفاف به، وإن أتى بعد أكثر من عشرة أشهر على إيداع لبنان المنظمة الدولية رؤيته لهذا الترسيم، في أعقاب اكتشاف مخزون ضخم من النفط والغاز فيها.

قد يكون من المبكر الجزم بأن إسرائيل قبلت بمرجعية الأمم المتحدة في بت هذا الخلاف وهي التي درجت على تجاهل قرارات الأمم المتحدة رغم أنها ولدت من رحمها، وربما بسبب تلك الولادة القيصرية.

ولكن، رغم أن منطق تعامل إسرائيل مع الخلاف لا يزال، حتى الآن، منطقها التقليدي - أي وضع اليد على المنطقة المتنازع عليها وفرض «أمر واقع» يكرسه تراكم السنين لصالحها - فإن إيداعها الأمم المتحدة رؤيتها لحدود ما تعتبره منطقتها الاقتصادية البحرية يوحي بأنها بدأت تأخذ في الحسبان معطيات إقليمية ودولية وحتى قانونية يصعب تجاوزها، بمنظور مبدئي ينبع الخلاف اللبناني - الإسرائيلي من مفاهيم مختلفة حيال المعيار الواجب اتباعه لترسيم الحدود البحرية بينهما. إلا أن الثابت حتى الآن أن لكل من لبنان وإسرائيل الحق الاقتصادي والبحثي على الموارد الطبيعية في هذه المنطقة من البحر الأبيض المتوسط، كل في إطار منطقته الاقتصادية الخالصة.

قد يستحيل، بمنظور عملي، فصل هذا الخلاف عن خلفية النزاع اللبناني الإسرائيلي على نقاط عدة من حدود البلدين منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بدءا بمزارع شبعا وانتهاء بالمنطقة المحتلة من قرية الغجر. ولكن رغم أن تصرف حكومة الليكود يوحي بأنها لا تستبعد احتمال فرض «أمر واقع» جديد على لبنان - على غرار الأمر الواقع في مزارع شبعا - فدون هذا الاحتمال جملة عوائق يبدو أن إسرائيل بدأت التحسب لها.

من الواضح أن إسرائيل غير قادرة أحاديا، قانونيا وشرعيا، على ترجيح رؤيتها لحدود المنطقة الاقتصادية مع لبنان بصورة قانونية كونها ليست في عداد الدول الموقعة على معاهدة قانون البحار، وغير قادرة أيضا على التفاوض بشأنها مع لبنان بطريقة، مباشرة، نتيجة استمرار سريان حالة الحرب بينهما.

هذه الاعتبارات، مجتمعة، قد تكون بين الأسباب الموجبة للجوئها إلى «تحكيم» الأمم المتحدة (وفي هذا السياق، يصح التنويه بمبادرة لبنان في عرض رؤيته الرسمية لحدوده البحرية قبل إسرائيل بعشرة أشهر على الأقل).

مع ذلك يصعب التقليل من عامل دولي مؤثر على قرار حكومة نتنياهو البدء باعتماد رؤية المرجعية الدولية في الخلاف مع لبنان، هو الموقف الأميركي من هذه الخلاف، إذ تؤكد صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن الإدارة الأميركية «تتبنى» خط الترسيم اللبناني للحدود المائية في المنطقة على اعتباره منسجما مع مفهومها لقانون البحار. وفي هذا السياق ذهبت الصحيفة إلى حد التأكيد، نقلا عن «مصدر كبير» في وزارة الخارجية الإسرائيلية، أن الإدارة الأميركية كلفت فريد هوف، الدبلوماسي المسؤول عن ملف سوريا ولبنان في فريق المبعوث الأميركي المستقيل جورج ميتشل، العمل على القضايا المتعلقة بالعلاقات بين لبنان وإسرائيل، وأن خبيرا كبيرا في رسم الخرائط، تابعا لوزارة الخارجية الأميركية (اسمه ريموند ميلفسكي)، يرافقه في ما وصفته بـ«جولات مكوكية» على بيروت والقدس المحتلة هدفها منع تحول مشكلة الحدود البحرية إلى بؤرة توتر بين البلدين. وفي هذا السياق يجوز القول بأن للولايات المتحدة نفسها مصلحة ذاتية في تحكيم قانون البحار الدولي في بت هذا الخلاف كونها تعتمده في تسوية مشكلات مماثلة مع جارتها الجنوبية، المكسيك، في مياه خليج المكسيك.

وغني عن التذكير أن إسرائيل تدرك أيضا أن تطور خلافها مع لبنان إلى حد يهدد بنشوب نزاع حربي في المنطقة من شأنه «تطفيش» شركات النفط - الحريصة على سلامة استثماراتها - من المنطقة علما بأن الشركات التي تملك الخبرة الفنية لاستخراج النفط والغاز من أعماق البحار معدودة، نسبيا، وغير مستعدة للمغامرة باستثماراتها ولا حياة عمالها للفوز بامتياز تنقيب مكلف ماليا وسياسيا.