كائن الإبادات

TT

هل القتل نوعان؟ والإبادة الجماعية؛ هل هي جريمتان؟ هل هناك قتل وطني وقتل استعماري؟ عادت إليّ هذه التساؤلات وأنا أقرأ مقال السيد عطاء الله مهاجراني الأسبوعي، الاثنين الماضي. فقد أجرى عرضا تاريخيا للاستعمار البريطاني في السودان، أسنده بشهادة من الطيب صالح، فإذن لا نقاش. ولكن هل هي طبيعة المستعمر وحده أم طبيعة البشر؟ هل ثمة مجال للمقارنة بين أعداد القتلى التي تركها الاستعمار البريطاني في الهند وأرقام الضحايا بين الهنود إثر الاستقلال؟

بعد خروج الاستعمار البلجيكي (وهو بين الأكثر قباحة) من بوروندي انقضّت قبائل التوتسي على قبائل الهوتو عام 1965 فقتلت الآلاف، وانقضت مرة أخرى عام 1972 فقتلت 100 ألف، ثم 20 ألفا في 1988، و3000 في 1991. مجازر متبادلة. أما في رواندا المجاورة، فقتل من التوتسي 800 ألف، بالمناجل، عام 1994.

تقع يوغوسلافيا في وسط أوروبا المتحضرة، لكن هناك أيضا لم يكف الكرواتيون عن ذبح الصرب في الحرب العالمية الثانية، ثم عندما تفككت يوغوسلافيا عام 1991. وعندما اندفع الصرب يقتلون لم يتركوا مجزرة إلا وارتكبوها ضد الكرواتيين والمسلمين معا. المجزرة الكبرى في الصين وقعت بعد التحرر. وفي روسيا حيث حصدت المجازر الملايين لم يكن هناك استعمار، ولا في كوريا الشمالية، ولا في العراق الحديث. لكن كل ذلك لا يبرئ وحشية الاستعمار البريطاني في كينيا، والإسباني في أميركا اللاتينية، والفرنسي في الجزائر، والتركي في حق الأرمن وسواهم.

تظل مجازر الخمير الحمر في كمبوديا هي الأكثر غرابة ووحشية وألما، وصل هؤلاء إلى السلطة ومعهم آيديولوجيا مجنونة، هي مزيج من اليسار الشيوعي والحنين إلى الحضارة الكمبودية القديمة. كانوا يكرهون الحداثة والتكنولوجيا، ولذلك دمروا بالإهمال جميع الصناعات. وراحوا يفرغون المدن كليا، ويرسلون الناس جميعا إلى معسكرات وتعاونيات زراعية بدائية تستخدم فيها الأكواب لحفر الأرض. وجعلوا من الشبان الصغار مشرفين على «سير العمل» وحياة العمال، وقد زودوهم بأسلحة رديئة خالية غالبا من الذخيرة، لكن هذا لم يمنعهم من القتل. يقول أحد الناجين: «عندما أراد الخمير الحمر قتل الناس لم يكونوا يطلقون الرصاص، لأنهم أرادوا أن يوفروا الرصاص، لذلك كانوا يقتلون الناس بالعصي، أو رفسا مثل النمل، أو أحيانا كان يقطعونهم لأخذ المرارة من أجسامهم أو أعضاء أخرى». نحو 1.7 مليون شخص قتلوا بأدوات بدائية، ومثل هذا العدد قتل بالتجويع.

أدت حروب الجنوب السوداني إلى قتل نحو مليوني شخص؛ لا نعرف كم قتل الاستعمار. الذي نعرفه هو أن هذا العالم، من ألمانيا إلى بوروندي، لا يزال يرى الحل في الإبادات الجماعية. كان عدد الضحايا أقل بكثير يوم كان الإنسان في الغاب.