ثورة 23 يوليو ونهاية الديمقراطية في مصر

TT

اليوم ذكرى مرور 59 عاما على ثورة 23 يوليو، عندما قام تنظيم الضباط الأحرار في مصر، بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر، بانقلاب عسكري ألغى النظام الملكي الدستوري، وجاء بالحكم الفردي الشمولي. فقبل يوليو 1952، كان في مصر دستور يكفل حق تكوين الأحزاب السياسية من دون شروط، وبرلمان يراقب أعمال الحكومة ويسقط الوزراء. في تلك الأيام كان في مصر 12 حزبا سياسيا ألغيت جميعها وحل مكانها تنظيم واحد، تغير اسمه من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي ثم الحزب الوطني، الذي ظل يزور الانتخابات، ويختار الوزراء الفاسدين، ويضع سياسة الحكومة، ويسيطر على المال والأمن في البلاد.

بدأ تاريخ مصر الحديث عندما تولى محمد علي باشا الحكم، بناء على اختيار الشعب له، سنة 1805، تحديا لقرارات الدولة العثمانية وتقاليدها. فمصر هي أقدم دولة ذات حكومة مركزية تكونت في التاريخ، بدأت منذ عصر الملك مينا الذي وحد الأرضين نحو 3100 سنة قبل الميلاد. وبعد نحو ثلاثة آلاف عام من حكم الملوك الفراعنة، سقطت مصر تحت سيطرة الرومان سنة 30 قبل الميلاد، عندما دخل الإمبراطور أوكتافيوس إلى الإسكندرية منتصرا، بعد هزيمة كليوباترا، آخر ملوك البطالمة. بعد نحو ألف وثمانمائة عام جاء محمد علي من ألبانيا ليخرج مصر من نطاق الإمبراطورية العثمانية، ويعيدها لتصبح دولة ذات كيان مستقل وهوية قومية محددة، وعاد المصريون شعبا وأمة في دولتهم، بعد أن كانوا رعايا لدول أجنبية.

وناضل المصريون من أجل الحرية، فقامت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول (أسهم فيها جميع طوائف الشعب وطبقاته) واستطاعت الحصول على استقلال البلاد، وإن ظلت قوات الاحتلال البريطاني موجودة، كما حصلت على دستور 1923 الذي أقام الحكم الملكي الدستوري.

وفي يناير (كانون الثاني) 1950، فاز حزب الوفد في الانتخابات بأغلبية ساحقة، وكلف الملك فاروق زعيمه، مصطفى النحاس، بتشكيل الحكومة. وازدادت آمال شعب مصر في أن تحقق الحكومة الجديدة مطالبه الرئيسية، التي كانت تتلخص في ثلاث نقاط: جلاء القوات البريطانية، حماية الدستور - بحيث لا يقوم الملك بإقالة الحكومة وحل البرلمان - ورفع مستوى المعيشة. ثم بدأت المقاومة الشعبية وحركة الفدائيين ضد القاعدة البريطانية في قناة السويس، بتشجيع الحكومة. وبينما كان الشعب المصري صامدا وراء حكومته في المطالبة بجلاء القوات البريطانية، فوجئ الجميع بحرق مدينة القاهرة في 26 يناير، وإقالة الحكومة الوطنية، ثم قام تنظيم الضباط الأحرار، بقيادة جمال عبد الناصر، بانقلاب عسكري، في 23 يوليو، واستولوا على حكم البلاد، وأقاموا نظام الحزب الواحد. وحتى يبرر الضباط الأحرار انقلابهم على السلطة، اتهموا الملك فاروق بأنه كان وراء الهزيمة، بسبب ما زعموه من شرائه أسلحة فاسدة، ليحارب بها الجيش في فلسطين. وتبين بعد ذلك أن هذا الاتهام كان مجرد وسيلة استخدمها هؤلاء الضباط لتبرير استيلائهم على السلطة. وفي تحقيق نشرته جريدة «المصري اليوم» (14 مايو «أيار» 2008)، تبين أن الأسلحة الفاسدة لم يكن لها علاقة بهزيمة حرب فلسطين: أكد مؤرخون أن قضية الأسلحة الفاسدة بريئة من هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين 48، وكذبوا الادعاءات بأنها كانت تنفجر في وجوه الجنود المصريين عند استخدامها. كما نشرت جريدة «الاتحاد» الإماراتية في 14 ديسمبر (كانون الأول) 2004، ما جاء في مذكرات الدكتور ثروت عكاشة بخصوص هذه الأسلحة: «حكاية الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين عام 1948 أكذوبة ودعاية رخيصة».

عندما استيقظ المواطنون في صبيحة يوم الأربعاء 23 يوليو سنة 1952، فوجئوا بأن قوات الجيش تحتل بعض مرافق القاهرة وشوارعها. واستمعوا في الساعة السابعة والنصف إلى محطة الإذاعة تذيع البيان الأول للثورة، بلسان اللواء محمد نجيب (وقام أنور السادات بإلقائه)، الذي وجهه إلى الشعب المصري وتحدث فيه عن الأسباب التي قامت الثورة من أجلها، فقال: اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم.. وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين.. وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا (داخل الجيش)، وتولى أمرنا داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم.. وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجردا من أي غاية».

في البداية، لم يرغب قادة الانقلاب في الكشف عن أهدافهم الحقيقية - وهي التخلص من النظام الملكي الذي يقوم على تعدد الأحزاب السياسية وتداول السلطة، عن طريق الانتخابات والأغلبية البرلمانية - حتى لا يواجهوا معارضة الجماهير والقوى السياسية القائمة، فقرروا تشكيل وزارة مدنية، اختاروا لها علي ماهر باشا. وبعد التخلص من الملك، اتجه الضباط الأحرار إلى الجيش، حيث قاموا باستبعاد عدد كبير من ذوي الرتب الكبيرة، فنقلوهم إلى وظائف مدنية ليس لهم خبرة بأعمالها، مما حرم الجيش من خبراتهم، وأثقل مجالات الإنتاج بأعباء لم يكن في حاجة إليها.

قبل يوليو، كانت مصر تتطلع إلى الاستقلال والحرية، وتعمل على استكمال المسيرة الحضارية وبناء مجتمع الكفاية والرفاهية، حتى تعود البلاد كما كانت عند بداية التاريخ. فمصر غنية، لديها ثروات كبيرة، وإن ظلت معطلة عن العمل والإنتاج. لديها شعب عظيم، عرف الحضارة منذ طفولته، وفي استطاعته، لو أتيحت له الفرصة، الوصول إلى قمة النجاح. في استطاعة المصريين بلوغ أعلى مستوى في التعليم والتدريب والتوافق الاجتماعي، فلديهم الأرض الخصبة والثروات المعدنية، لتحقيق النمو الزراعي وغزو الصحراء والتعامل مع أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة؛ فما الذي حدث في مصر بعد استيلاء الضباط الأحرار على الحكم منذ 59 عاما؟