بل يجب أن يبكي!

TT

من نافذتي حاولت أن أعرف مصدر هذا الصوت الغريب.. الدنيا مظلمة.. وأسطح المنازل قد زادت الظلام وأضافت إليه بعض التراب الرطب.. حتى أصبح من العسير على أنفي وعلى عيني التفرقة بين الظلام والتراب والرطوبة.. فالليل عندنا يشبه خيمة غريبة مصنوعة من الطين وبلا أعمدة!

وكلما حاولت أن أعرف أين يوجد هذا الطفل الذي يبكي منذ ساعة بلا توقف.. فلا أمه تصحو ولا هو يسكت.. ولا أحد من الجيران يصحو ويحاول أن يصرخ من الأرق.. ولا أحد يحاول أن يلقي بقطعة من الحلوى لهذا الطفل.. لا أحد.. مع أن الجيران كثيرا ما تدخلوا في مثل هذه المواقف المؤلمة.. وكثيرا ما تدلت السلال من النوافذ وبها الخبز واللحم لإطعام جائع أو مريض أو سيدة وضعت مولودا.. ولكن في هذه الليلة لم يتحرك أحد.. لم تفتح نافذة.. لم أسمع ميلاد صرخة.. أو شخطة.. وأنا أعرف كيف تولد المعارك والخناقات هنا.. إنها كلمات تتعثر بين رجل وزوجته.. وبعد ذلك تزحف، من السرير إلى النافذة.. إلى كل النوافذ!

والذي شعرت به في هذه الليلة هو اليأس والاستسلام.. ومحاولة أخيرة أن أشغل نفسي بشيء.. أي شيء.. فجعلت أفكر في مزايا البكاء للأطفال.. فالطفل يجب أن يبكي عند ولادته.. كل أطفال الدنيا يجب أن يبكوا.. وبكاء الأطفال شيء جديد لم يظهر إلا في العصور الحديثة.. لأن الأطفال لو كانوا يبكون من آلاف السنين لهجمت عليهم الوحوش وأكلتهم وانقرض الإنسان.. ولكن عندما أصبح الآباء والأمهات آمنين على أطفالهم من الوحوش تركوهم يبكون.. فبكاء الأطفال ظهر مع اختفاء الوحوش.. اختفاء حياة الإنسان في الكهوف والغابات.. ظهر البكاء مع بنات البيوت ذات الأبواب والنوافذ المقفلة!

وبكاء الطفل يقوي أحبال الصوت ويجعل التنفس منتظما ويقوي الرئتين.

وأذكر أنني قرأت كتابا عن هتلر لأحد علماء النفس الألمان.. ووقفت عند رأي غريب لهذا العالم النفسي الكبير.. فهو يقول إن هتلر وهو طفل كان يحاول أن يضع أصابع قدميه في فمه.. كما يفعل كل الأطفال.. ولأنه لم يتمكن؛ لعيب في ساقي هتلر الصغير.. ويقول إن هتلر وهو صغير كان يبكي كثيرا في الليل، ولكن أمه لم تكن تلبي مطالبه.. وسبب ذلك أن أم هتلر كانت تنام بعمق.. وذكر العالم النفسي أن النار شبت في بيت هتلر وهو صغير وحاول الطفل إنقاذ أمه فراح يبكي ويمزق ملابسها، ولكن البوليس هو الذي أنقذ الأم والطفل!

ويقول هذا العالم لو كانت أم هتلر خفيفة النوم لأنقذت الإنسانية من سفاح المستقبل.. الذي أزعج ملايين الأمهات بعد ذلك. فقد قتل ملايين الشباب لكي يزعج ملايين الأمهات.. إنه ينتقم من أمه التي عذبته سنوات طويلة.. جعلته يبكي طول الليل إلى جوارها ليكون انتقامه رهيبا بعد ذلك!