«والعلم كمان ذنبه إيه؟»

TT

أربكتني مداخلة فضائية مصرية صباح الخميس بالتليفون حول أزمة الصحافة البريطانية مع الساسة بعد فضيحة تجاوز صحافيين أخلاقيات المهنة بالحصول على معلومات بطرق غير مشروعة.

فوجئت بتدني المستوى المهني والأخطاء المضحكة في بليتها. ابتداء من نطق اسم صاحب مجموعات الصحف روبورت Rupert ميردوخ الذي يصر الصحافيون العرب على تغييره من المكتوب في شهادة الميلاد Rupert إلى روبرت Robert، رغم ضرورة حكم قضائي لتغيير اسم الميلاد في كل بلاد الدنيا!.

العربية لا تفرق بين «B» و«P»، وهذا لا يلغي الاجتهاد لصياغة نطق صحيح.

النطق في علم الصوتيات phonetics يحدده مسار الهواء من الحنجرة إلى الشفاه ويتحكم اللسان ومسافته من الأسنان في دفعاته. فمثلا الإنجليز لا ينطقون الراء إلا إذا أعقبها حرف حركة vowel وليس ساكنا فـ Part (جزء، أو رحل) تنطق «بااط» مثلا.

حرف الحركة «e» في Rupert يعقب حرفا ساكنا «p» مصدره إطباق الشفاه، وبدوره سبقه حرف حركة «u» بتدوير الشفاه، والقاعدة نطق «e» (بصوت إطلاق الهواء دفعة قصيرة من الشفاه المطبقة) مثل «الواو» القصيرة «u» كما في «cut» خاصة أن الراء الثانية لن تنطق كاملة حيث يكتمها الحرف الساكن «ت t» باصطدام اللسان بأعلى الأسنان الأمامية. ولذا فاجتهادا لكتابة أقرب نطق صحيح لـ Rupert يكون «روبورت».

تدهور مستوى تعليم لغات الجيل الحديث بطرد الانقلابات العسكرية «التحررية» للمعلمين الإنجليز الذين حرصت وزارات المعارف منذ عهد الخديو إسماعيل على وجودهم. كما ألغت وزارات التربية و«التجهيل» دروس الإلقاء والصوتيات لتعليم النطق الصحيح.

فحامل شهادة الابتدائية من عام 1950 يلقي قصيدة لشكسبير بطلاقة بينما لا يستطيع خريج جامعة القاهرة 2010 فهم فيلم بلا ترجمة على الشريط.

زيادة في التضليل وصف المذيع المصري ميردوخ خطأ بأنه «يهودي» واتهمه بتسخير كل إمكانياته لـ«دعم إسرائيل» ومحاولة «اختراق وسائل الإعلام العربية لتسخيرها في خدمة الصهيونية».

لا أدري دوافع المحطة المصرية (قطاع خاص) لاستخدام أسلوب تكريس النمط العدائي اللامعقول بربط كل ظاهرة (سواء اكتشاف علمي أو سمكة قرش ترعب السابحين) بإسرائيل؛ خاصة بعد الثورة!

فثورة اللوتس، وثورات الياسمين والأمم الليبية والسورية واليمنية كشفت زيف الخرافات التي روجتها صحافة الأنظمة، واتضح أن إسرائيل، أو العداء لأميركا، لم تكن الشغل الشاغل للشعوب (بدليل غيابها من الشعارات الثورية)؛ بل الأحوال الاقتصادية والحريات المدنية والديمقراطية ومحاربة الفساد وتوريث الحكم.

وما زلت متحيرا من الهدف تجاه النقاش. هل كان الغرض تشويه سمعة ميردوخ؟ (الناصريون يكرهون الاقتصاد الرأسمالي الحر لأنه يتطلب العمل الجاد لا الشعارات). الثورة أثبتت أن إسرائيل لم تكن محور اهتمام الجماهير المصرية، فلن يزيد عدد المشاهدين بترويج خرافة تأييد ميردوخ لإسرائيل.

ميردوخ ينتمي إلى تيار الرأسمالية الاستثمارية الإنتاجية التي تطور أساليب الإنتاج التكنولوجية، لملء فجوة في السوق، بعكس المدرسة البنكية الساعية لأقصى ربح في المدى القصير بإفلاس الآخرين في البورصة وتخمين الأسعار، والقروض باهظة الفائدة بلا تضحية برأسمال.

الرأسمالية الاستثمارية تخلق وظائف وتغامر بملايين الجنيهات في استراتيجية بعيدة المدى لجذب مستهلك تغافل منتجو السلع الصحافية الآخرون عن حاجاته، وبالتالي تخلق وظائف جديدة. المثال إطلاق شبكة «فوكس نيوز» مثلا التي توجهت إلى مشاهد تجاهله الآخرون: الحزام المسيحي اليميني الاتجاه الداعم للمحافظين الجدد.

حسابات هؤلاء المستثمرين لا علاقة لها بالآيديولوجية أو الدخول في صراعات سياسة، وإنما تنموية تسهم بطبيعتها (كمستثمري الثورة الصناعية في القرن الـ18) في تطوير التكنولوجيا وخلق وظائف جديدة بهدف زيادة الاستهلاك.

ميردوخ يستعد لإطلاق فضائية باللغة العربية من أبوظبي، متوجها إلى سوق استهلاك صحافي يفوق اقتصاديا (بعشرات الأضعاف) سوق إسرائيل الصحافي المحدود، كما أنه شريك لاقتصادي مستثمر سعودي ناجح هو الأمير الوليد بن طلال.

وإلى جانب تفشي الجهل في جيل «التربية والتعليم» مقارنة بجيل «وزارة المعرفة»، فهناك حاجة إلى دراسة لاكتشاف أسباب تضليل هذه المحطات للمشاهدين في عصر تتوفر فيه المعلومة بسرعة البرق. في شبابي مثلا اقتصرت التكنولوجيا على التايبريتر والتلكس؛ والفاكس بحجم ثلاجة المطبخ بأوراق فوتوغرافية؛ وكان خبر 400 كلمة يضيع يوما كاملا بين البحث عن المعلومة تحت خيوط عنكبوتية أو عن تليفون عمومي قبل اختراع الموبايل، ورشوة موظف البوستة (خاصة في أفريقيا) لإرسال الخبر بالتلكس.

ويبدو أيضا أن الجهل باللغات العالمية وراء هذه الأخطاء (إذا افترضنا حسن النية)، حيث يبحث هؤلاء الصحافيون الشبان على الإنترنت باللغة العربية فقط، ومعظم المواقع العربية مؤدلجة، ولها أجندات سياسية ومليئة بخرافات.

أذكر في عام 1961 حضوري مناقشة رسالة دكتوراه (باللغة الإنجليزية) في جامعة الإسكندرية لشاب عن فترة صراع أساطيل قوى القرن الـ18 العظمى في أعالي البحار. كانت المناقشة ممتعة ولا تقل عن دقة وثراء محاضرات الجمعية الملكية أو الجمعية الجغرافية في لندن.

في حفل ما بعد المحاضرة، اعترف الأستاذ المصري العجوز المشرف، بأسى شديد، بأنه منح تلميذه النابه الذي استغرق إعداد رسالته أكثر من سبع سنوات درجة جيد جدا بدلا من دكتوراه بامتياز.

السبب؟

قال البروفسور الكبير إن الشاب سافر إلى باريس ولندن، ولشبونة التي حصل منها على أكبر قدر من الوثائق. أجاد الفرنسية والإنجليزية، ولم يكن يجيد البرتغالية فدرس الوثائق البرتغالية، مترجمة إلى الإنجليزية. وأضاف الأستاذ الكبير، رحمه الله، بأن لديه شكا، قد يكون واحدا في المائة فقط، بأن يكون هناك عدم دقة في ترجمة الوثائق من البرتغالية، مما يضع شوائب في هذه الرسالة، وبالتالي لا يمكن منحها درجة امتياز.

وببراءة الشباب سألت الأستاذ الكبير «طيب يا بروفسور الشاب لا يعرف البرتغالية؟» فأجاب: «كان لازم يتعلم البرتغالية ويتقنها». ثم هز رأسه بأسى شديد قائلا «لكن عايزة مصاريف ولم أستطع تأمين منحة له، مسكين الشاب فقير معندهوش فلوس لثلاث سنين كمان لتعلم البرتغالية».

وببساطة سألت البروفسور «طيب ما هو فقير مسكين، يبقى ذنبه إيه؟»

فنظر إليّ متعجبا وقال بصوت أب ينهر ابنا جاهلا «ملهوش ذنب. بس يا بني ضميري ما يسمحش أغلط في حق العلم، لأن العلم كمان ذنبه إيه؟»