لم نعرف عن إرهابه إلا القليل!

TT

اللقاء الموسع في خمس الحلقات الذي أجراه الزميل غسان شربل في «الحياة»، مع عبد الرحمن شلقم، المسؤول الليبي السابق، لم يظهر لنا من صورة القذافي الحاكم المتسلط إلا القليل، ما زلنا لم نستطع بعد إلقاء أضواء كاشفة على شخصية الحاكم الطاغية في فضائنا العربي المعاصر نظريا أو عمليا. الاستبداد والطغيان الشرقي كان ولا يزال موضوعا للدراسة لدى الغير، منذ أرسطو حتى هيغل وكارل ماركس. إلا أن مقارنة الاستبداد الغربي بالشرقي تظهر لنا الفرق، فالأول كان على الأقل لدى بعضه مشروع ما يريد تحقيقه، أما الثاني فيفتقد حتى للمشروع العقلاني، بجانب فقده للمشروعية، فيتخذ التصفية والقتل طريقا للبقاء في السلطة، إلا أنه بقاء، مهما طال، قصير. ويركب الطاغية في عصرنا العربي على ثلاث قواعد، حكم عسكري أو شبه عسكري (شمولي)، وملكية كاملة للدولة على كل الموارد، وبطانة مستعدة للتصفيق تحت شعارات زاعقة. ما قاله عبد الرحمن شلقم هو غيض من فيض، لم نعرف بعد تمام تفاصيله التي جرت في كواليس حكم القذافي للشعب الليبي المغلوب على أمره كل هذه السنين، ولكن الأسوأ أن هؤلاء الحكام الظلمة الذين استباحوا دماء شعوبهم وما زالوا يفعلون، قد وجدوا من البعض من يصفق مناصرا لهم، يأتمر بما يقررون، حتى لو كان الولوغ في الدماء. ولنا الآن فيما يقوله السيد شلقم عن القذافي، وما يقوله آخرون عن أسيادهم السابقين بعد الانشقاق عنهم، عبرة لمن يريد أن يعتبر. التجربة المرة عنوان للعديد من الرجال الذين تمسحوا بأهداب الطاعة، وهم سلسلة طويلة في عصرنا، إن نعدهم.

في فبراير (شباط) 1976 عقد في طرابلس الغرب ندوة كبرى حضرها ما يقرب من 500 من المفكرين والكتاب ورجال الدين والصحافيين عربا وأجانب، كان عنوانها «الحوار الإسلامي المسيحي» وكنت في معية عدد من الأصدقاء، من بينهم المرحوم الصديق محمد مساعد الصالح، وقتها كان يشغل رئيس تحرير جريدة «الوطن» الكويتية. في اليوم الثاني وفي تلك القاعة الكبيرة التي انتظم فيها رجال دين مسيحيون ومسلمون ورجال سياسة، تنبهنا على منظر، حمل الأستاذ شلقم كرسيا من آخر القاعة مرورا على رؤوس الجالسين حتى الوصول إلى المنصة، قالوا إن «القائد» سوف يحضر الحوار وذاك كرسيه. حضر القائد وكان أمامه رجال دين مسيحيون، من حديثهم يبدو أنهم ضالعون في تاريخ الأديان. قال «القائد» وبجسارة يحسد عليها، وأمام كل هذا الجمع من الناس، ومعظمهم يعرف عن الأديان وتاريخها الكثير، قال القذافي موجها الحديث للحضور من المسيحيين: «لماذا تتعبوا أنفسكم؟ لماذا لا تنضموا إلى المسلمين فتنتهي المشكلات التي تعانون منها؟». نظرت إلى المرحوم محمد مساعد ونظر إليّ، ثم بعد الاستراحة صرنا نبحث عن مقعدين فارغين على طائرة مغادرة تحملنا إلى أي نقطة في الدنيا وتخرجنا من هذا المأزق الكابوس، وجدنا رحلة إلى مالطة في المساء، وعند الخروج من مطار طرابلس ليلتها لم يترك لنا مفتشو الجمارك - وأظن أن بعضهم من الأجهزة - صغيرة ولا كبيرة إلا وفتشوها، ربما امتثالا لما اعتقدته الأجهزة عن حق أننا نحتج صامتين على هذا النوع من الاستخفاف بالعقول.

منذ ذلك التاريخ، أي منذ نحو 35 عاما، تبين لكثير من العقلاء، أن القذافي - مزهوا ببزته - يعاني من اضطراب نفسي أقرب له المصحة العقلية من كرسي الحكم، وهكذا تطورت لديه الحالة حتى أصبح مضحكا مبكيا في تاريخ هذه الأمة.. من ضابط ثوري إلى ملك الملوك ومغامر دولي.

رغم الشذوذ البكر، فإن القذافي استمر في كرسي الحكم عن طريق بعض من صور له أن شذوذه حكمة، وأن أقواله رسالة. حقيقة الأمر، إن القذافي لم يكن لديه مشروع غير نفسه، حتى غدا كالطاووس في ملابسه وتصرفاته العامة والخاصة. وعندما بدأت الطيور تغادر أعشاشها جراء موجة التقتيل الواسعة في الشعب الليبي، ظهر إلى اليقين ما كان في دائرة التكهن. سلسلة من الأسماء المعارضة التي اغتالتها أجهزة القذافي بقرار منه، تبدأ من بعض رفاق الدرب السابقين ولا تنتهي بهم.. إبراهيم البشاري، منصور الكخيا، عمر المحيشي، محمود نافع، محمد أبو زيد، محمد المقريف، وسلسلة مِمَن كان يسميهم القذافي «الكلاب الضالة» - بعضهم كان في مجلس قيادة الثورة. يقول السيد شلقم إن القذافي مستعد لـ«دفع ثروة من المال» للتخلص من معارضيه أو من يقترب من كرسيه. قال في خطبة علنية: «سنقتلهم ونسبي نساءهم ونيتم أطفالهم، ونرمل زوجاتهم»! ذلك كلام على ما يثير من الرعب فصيح في ديباجته يحتاج إلى كاتب قدير ليكتبه!

لم يكتف القذافي بتدمير هيكلية النخب في الشعب الليبي وإذلاله وإفقاره، بل تعداها للتآمر على رؤساء وملوك وحكومات من أقصى الأرض إلى أقصاها، من إسقاط طائرة في أفريقيا بسبب اعتقاده بوجود معارض على متنها، إلى مأساة لوكربي أخذا بثأر، ومن تسليم صواريخ لإيران، إلى الإغداق على محاسيب في لبنان، ومن اختفاء موسى الصدر، إلى محاولة اغتيال وزراء النفط في اجتماع «أوبك».

القذافي المحمل بسلسلة معقدة من المشكلات النفسية والمصاب بجنون العظمة، لم يكن يحتاج إلى كثير تشخيص لمعرفة ما هو ومن هو. ما يحتاج إلى التشخيص من مشي معه وزين له في غيه، ما يحتاج إلى تشخيص هو كيف ينمو مثل هذا النوع من الديكتاتورية في فضائنا العربي. يرتبط الديكتاتور ارتباطا قسريا بالعنف والقوة والخضوع والخوف معا. الخوف العظيم من فقدان السلطة، وهو بخوفه ذاك يتصرف بطريقة هوجاء تفقده السلطة في نهاية المطاف. يقتل إلى أن يعتقد كل من حوله أنه قاتله فيهرب أو يتآمر لقتله.

عندما يكتب التاريخ سجل الديكتاتورية العربية المعاصرة، سوف نرى أن عناصر شبه متطابقة في شخصيات هؤلاء الحكام، وطريقة تصرفهم في أموال ودماء الشعوب، وشخصيات الأزلام التي تزين لهم أعمالهم، وما زال شريط القتل المحزن يعرض أمامنا مساء وصباحا، فالقتل سيد الموقف. دماء أهل ليبيا مثل غيرها تتحول قرابين للحرية، أما ما عرفناه من إرهاب القذافي فهو فقط ما يظهر من رأس جبل الثلج.

آخر الكلام:

«منذ وقت مبكر حاولت الدعوة الإسلامية الإحياء الروحي للإسلام، لكنها لم تتسع بنفس الدرجة للإحياء الفكري، لذا كانت اندفاعاتنا هوجاء».. حسن الترابي لـ«الأهرام» القاهرية بعد ضياع نصف السودان! أليس الاعتراف متأخرا جدا؟!