إن لله جنودا من عسل

TT

هناك مثل شعبي متداول في وسط الجزيرة العربية يقول: (عنز بدو طاحت بالمريس)، كناية عن الإنسان الذي يقدم على شيء لم يألفه ويسرف في تناوله دون روية ثم يكون في النهاية وبالا عليه، مثل تلك العنزة التي لم تألف سوى رعي حشائش الصحراء، واشتراها أحد الحضر وأراد إكرامها وأحضر لها وعاء ممتلئا بـ(المريس) الذي هو عبارة عن بقايا التمر مع النوى وقليل من الطحين مخلوط بالماء، فاستساغته العنز (المقرودة) وشطبت على الوعاء بكامله إلى أن (انبشمت) وكانت النتيجة أن بطنها انتفخ وأصيبت بإسهال حاد أدى إلى نفوقها في نفس اليوم، ومن هنا أتى ذلك المثل الذي ذكرته.

وهناك حادث تاريخي ينطبق عليه ذلك المثل مع الفارق بالطبع، فقد ذكرت لنا كتب التاريخ:

أنه لما بويع عثمان بالخلافة أمر عمرو بن العاص بغزو الإسكندرية للمرة الثانية. وكان قد بنى مدينة الفسطاط وأقام بها فتجهز قاصدا الإسكندرية ففتحها، ثم عاد إلى الفسطاط، فوجد عثمان قد أرسل عبد الله بن سعد ليشركه معه في حكم مصر، فغضب، وكتب إلى عثمان يطلب خلعه، فأبى وخلع عمرا، وعقد لابن سعد على مصر، ولما قتل عثمان وبايع معظم المسلمين عليا بالخلافة انضم عمرو إلى معاوية لعلمه بسياسته ودهائه وأخذ يتحين الفرص للعودة إلى مصر. ولكن مصر كانت موالية لعلي بن أبي طالب، وقد أرسل إليها الأشتر مالك بن الحارث النخعي ليكون واليا عليها. فدخل الوالي الجديد في موكب حافل ونزل للراحة في القلزم، وأمر حاشيته بأن يمدوا السماط، وأن يحضروا أكلة (السخينة) التي يسمع بها ولم يأكلها في حياته، وهي عبارة عن خبز ملتوت بالعسل مضاف له بعض القشدة، فأكل الوالي الجديد وشرب وأسرف في الطعام، فأصابته تخمة فمات في وقته وهو لم يبرح سماطه. وقيل فيما بعد إن تلك السخينة قد تكون (ملحوسة) أو مسمومة - والله أعلم - فبكته الباكيات، ورثاه الشعراء. وقالت فيه سلمى النخعية:

نبابي مضجعي ونبا وسادي

وعيني ما تهم إلى رقادي

كأن الليل أوثق جانباه

وأوسطه بأمراس شداد

أبعد الأشتر النخعي نرجو

مكاثرة، ويقطع بطن واد

أكر إذا الفوارس محجمات

وأضرب حين يختلف الهوادي

أما عمرو فإنه لما علم بهذه الحادثة، وكان يرى وقتئذ في كل وال من ولاة مصر منافسا له، فترحم على النخعي، ثم قال وهو يتبسم: إن لله جنودا من عسل.

بالنسبة لي فإنني أصبحت أتطير وأحاذر من أي أكله لذيذة لم أتعودها وتقدم لي، فأتجنبها سريعا ولا يخطر على بالي في وقتها غير أن يكون مصيري لا سمح الله كمصير (عنز البدو) التعيسة، أو (الأشتر النخعي) عليه رحمة الله.