هل أطلق رسل التقدم قوى التخلف من عقالها؟

TT

كانت فرحتي وزملائي الأطفال بقدوم شهر رمضان كبيرة بالفعل، ليس لأننا سنصوم مثل الكبار محققين خطوة على طريق النضج، ولا لأننا سنأكل على الإفطار لذائذ الطعام ثم نعقبها بأنواع عبقرية من الحلويات، لكن لسبب آخر.. فشهر رمضان كان يعطينا الحرية في أن نلعب في أي مكان حتى لو كان مظلما حالك الظلمة، لأنه لا توجد عفاريت مطلقة السراح في هذا الشهر، هي تحبس جميعا وتسلسل في مكان ما بعيدا عن البشر. حكاية العفاريت هذه وحبسها في شهر واحد وإطلاق سراحها بقية الشهور، شغلتني كثيرا، بالتأكيد هناك ملاك مكلف بحبسها وهو أيضا من سيطلق سراحها.. من ناحية المنطق الصوري من المستحيل أن يتطوع الخير المتمثل في الملاك لإطلاق سراح الشر المتمثل في العفاريت ليعبث بحياة البشر، غير أن المنطق مع أهميته لا يصلح في كل الأحوال لفهم ما يحدث للبشر ومنهم، فالاستقراء بما يتطلبه من تجربة ومشاهدة واستنتاج هو الوسيلة الأكيدة للمعرفة، مع الاعتراف بأن كلمة أكيدة ليست مؤكدة بشكل قطعي. هل تسري هذه القاعدة - أن يطلق الملاك سراح العفاريت - على بقية شؤون البشر؟ هل يحدث أحيانا، في الظروف غير الطبيعية في المجتمعات من ثورات وهبات، أن يفتح رسل الحرية الباب على مصراعيه لتدخل منه جحافل التخلف المؤدية بالحتم للخراب والاستبداد؟

هذه هي مشكلة الحرية، من المستحيل أن تطلبها لنفسك أو لحزبك أو لجماعتك وتحرم الآخرين منها، أو بالدقة من ترى أنهم غير أحرار أصلا وبالتالي لن يقدروا قيمة الحرية التي حصلوا عليها، في هذه الحالة أنت تحرم نفسك من الحرية، وذلك عندما تتولى بنفسك حمايتها.. القانون هو وحده الكفيل بحمايتها. الحرية إذن هي الثقة في القانون العام والقائمين على تنفيذه، لذلك ستلاحظ أن الاسم الذي تطلقه الصحافة على رجال الشرطة هو «منفذو القانون» (Law Enforcers).. وبغير قوانين وبغير منفذين صارمين لهذه القوانين، لا وجود للحرية إلا بوصفها كلمة تستخدم كوسيلة لأكل العيش لبعض المطربين وبعض الخطاطين المكلفين بكتابة اللافتات المطالبة بها.

«عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية» هي أسهل الكلمات التي عرفها البشر، وهي أيضا أكثرها صعوبة عند تحويلها من حروف باردة على الورق إلى واقع يعيشه الناس. وفي الأسبوع الأخير لفت نظري إحجام عدد كبير من البشر عن قبول وظيفة وزير في حكومة عصام شرف، وذكرني ذلك بجملة قديمة للمؤرخ الأميركي ويل ديورانت، قالها وهو يصف آخر مرحلة من مراحل سقوط الإمبراطورية الرومانية، حيث قال «كان الناس يفرون من المناصب فرارهم من الضرائب»، بالفعل كان بعض الحكام في هذه الفترة يرسلون ببعض رجال الجيش للقبض عليهم ووضعهم في المنصب قسرا، لكننا والحمد لله لم نصل بعد لهذه المرحلة.

ولعل أهم ما يستدعي الانتباه في الحكومة بعد التعديل هو وجود نائبين لرئيس الوزراء، الأول هو الدكتور حازم الببلاوي، وهو رجل اقتصاد عملي يؤمن ويعمل من أجل الاقتصاد الحر، ومفكر لا يعشق النجومية أو الشعبوية، وكاتب ومحلل سياسي ممتاز.. هو مستشار لرئيس الوزراء ووزير للمالية، وهو المنصب الذي طلب بنفسه أن يتولاه، ربما قرر ذلك لأنه يعرف أن المستشار في التراث الحكومي المصري يعني الرجل الذي لا صنعة له ولا شأن.

غير أن معلوماتنا قليلة عن الدكتور علي السلمي، مستشار رئيس الوزراء للشؤون السياسية والتنمية الديمقراطية، والواقع أن كل أنواع التنمية في هذا العصر تعتبر الحرية السياسية والاقتصادية هي قاعدتها الوحيدة، بيد أن الدكتور علي لا يحمل ودا لحكاية بيع القطاع العام، وأعلن أن الخصخصة انتهت، بل وستتشكل لجنة لمراجعة العقود المعقودة للتأكد أنها عادلة. هنا نستطيع القول إنه لا الدكتور حازم الببلاوي ولا آدم سميث ولا عباقرة التاريخ في الاقتصاد الحر يستطيعون إنجاز أي شيء من أي نوع وهم في مجاورة سياسيين استمدوا كل خبراتهم من مرحلة القطاع العام، ولم يصلهم حتى الآن صوت انهيار سور برلين، يعني باختصار لا وجود لمستثمر في مشاريع جديدة في مصر، أما حكاية إعادة العناية بالقطاع العام فهناك من يشكك بقوة في إمكانية حدوث ذلك. أما أنا فلست أراه مستحيلا، فمن الممكن الإبقاء على القطاع العام بل وإنشاء المزيد منه وذلك في حالة واحدة تتطلب شجاعة وإرادة سياسية، الجهاز الإداري في حاجة فقط لإنشاء مطبعة كبيرة على عشرة آلاف فدان، تقوم بطبع الفلوس المصرية، بالإضافة لأسطول نقل بري ينقل الفلوس المطبوعة إلى البنوك أو إلى إدارات القطاع العام مباشرة. هذه هي الطريقة الوحيدة على الأرض للحفاظ على مشاريع القطاع العام الفاسدة أصلا، هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكنك من ضخ مليار جنيه سنويا للسادة العاملين في عمر أفندي وأحمد أفندي وعبده أفندي، ولـ«الأهرام» أفندي ولـ«الأخبار» أفندي وبقية الأفنديات الذين جاء الدكتور السلمي في نهاية الزمن ليطبطب عليهم.

ننتقل الآن إلى الجناح الذي نعجز عن إيجاد تسمية له، والذي يظهر أفراده فجأة ويطلقون عدة صواريخ تكفيرية على الواقفين في طابور الحرية، ثم يمضون إلى حال سبيلهم، مثل الدكتور الذي صرح أخيرا في سرادق جماهيري حزبي بأن انتخاب الليبرالي والعلماني حرام.

ها هو أستاذ في العلوم قرر أن يعمل في السياسة ولو حتى في قسم الترويج للجماعة الأم، والسياسة تعرف ما هو صحيح وما هو خطأ، غير أنها - السياسة - لا تعرف الحلال والحرام. هي تعرف القرارات الصحيحة المفيدة للناس، وتعرف المشاريع الغلط. وهو وغيره عندما يستعينون بمفردات الدين للقضاء على خصومهم في السياسة فهذا أمر لا يشعرني بطمأنينة في مرحلة تدل فيها كل المؤشرات على أن جماعات الإسلام السياسي ستلعب دورا مؤثرا في المستقبل القريب. لا داعي لاستخدام الحلال والحرام في السياسة، فربما يظهر على الفور بينكم من يستخدمها ضدكم.. لا داعي للعبة التكفير لأنها ضيعت من قبل من لعبوها.

يجب ألا تظلم الحكومة المصرية الحالية نفسها، ويجب ألا نظلمها نحن.. لا داعي للدخول في أي أمور أو مشاريع استراتيجية، لا داعي للحديث عن الخصخصة والقطعنة، يكفي فقط أن تستعد للانتخابات القادمة، نعم.. إذا استطاعت توفير جو آمن وهادئ للناخبين فستكون أعظم حكومة في العالم.