«الاحتلال» العراقي لكردستان!!

TT

لفت أحد الزملاء انتباهي إلى قارئ كردي غالبا ما يعلق على المقالات التي أكتبها، وبغض النظر عن موضوع المقالة، الذي غالبا ما يكون غير ذي صلة بهجوم على العراق والعراقيين (العرب)، وبشكل خاص على «الاحتلال» العراقي لكردستان. لست هنا بصدد الرد على تعليقات هذا القارئ، أو أي قارئ غيره، ولكنني هنا بصدد مناقشة رؤية سائدة وسط قطاع واسع من المواطنين الكرد، لا سيما الشباب منهم. ربما هنالك من يشعر بمرارة تجاه حقيقة أن الانفصال الوجداني بين سكان العراق من العرب والكرد يتنامى مع ظهور أجيال كردية جديدة أسيرة آيديولوجيا تصل إلى مستوى الكراهية للعرب العراقيين، ولكن بالمقابل، فإن الأفكار العنصرية السائدة تجاه الكرد لدى الكثير من العرب العراقيين لا يمكن أن تنكر، ولا يمكن لأي حديث من نوع «كلنا أبناء وطن واحد ولدينا وشائج عميقة» أن يغير من حقيقة عمق الانفصال الوجداني الذي تعززه خطابات الكراهية المتبادلة، والاعتقاد بأن الآخر الكردي أو الآخر العربي هو «عدو وخصم طبيعي».

لقد وصلت إلى قناعة بأن هذا النوع من الخطابات الرومانسية الحالمة، رغم ما قد يبثه من طمأنينة لدى البعض، هو جزء من المشكلة، وليس حلا بالمطلق. فعن أي وشائج يتحدث البعض والفجوة بين كردستان وبقية أنحاء العراق ومنذ عام 1991 قد تعمقت إلى حد أن غالبية العرب لا يعرفون ماذا يجري في كردستان، والعكس صحيح.

نعم، ربما تكون خصوصية كردستان هذه تمثل مدخلا للحل، وليست مشكلة بذاتها، فصمود الكرد تاريخيا تجاه محاولات السلطات العراقية لتحويلهم قسرا إلى عرب، وتجاهلها حقهم كمواطنين يجب أن يتمتعوا بكافة حقوق العرب، مثل هذا الصمود الذي تحول عام 1991 إلى نوع من الأمر الواقع، مرحلة مهمة نحو تفتيت العقل التوتاليتاري العربي الذي كان مليئا بالنزعة الاستعلائية ورفض الاختلاف والتنوع، بل والسعي إلى القضاء عليه بالقوة إلى حد إبادة قرى بأكملها وقتل مئات الألوف في حملات عسكرية تتستر باسم سورة من سور القرآن «الأنفال». وفشل أصحاب النزعة التوتاليتارية الإقصائية في إعادة السيطرة العسكرية على كردستان ساعد على دفع الكثير من العراقيين العرب في الأوساط السياسية والثقافية إلى مراجعة مواقفهم من القضية الكردية، وإلى إدراك أن المشكلة لا تكمن في وجود شعبين من أصل لغوي وعرقي مختلف في العراق، بل في الاعتقاد بأن الوحدة تعني إلغاء الاختلاف، وأن بناء الدولة المستقرة يقوم على تحويل كل المواطنين إلى أفراد متشابهين يتكلمون نفس اللغة ويتحدرون من نفس العرق.

العرب العراقيون قبل أي أحد آخر عليهم أن يتذكروا هذا الماضي جيدا، عليهم أن يدركوا أن القبول الذي أبداه بعضهم حتى لو كان قسريا للنهج التوتاليتاري الإقصائي مثل خطيئة كبيرة، وأن أي تفكير بالعودة إليه هو أمر يستحق التجريم. أما أولئك الذين حاولوا وسيحاولون إيجاد تبرير لما كانت تفعله السلطات الاستبدادية الشوفينية فهم يتحولون باطراد إلى أقلية مريضة ومعزولة، لأن حرية التعبير إن لم تكن خاضعة لمبدأ أعلى يتمثل في احترام حق الإنسان في الوجود وصون كرامته، بغض النظر عن دينه أو قوميته أو طائفته أو قبيلته، فهي اعتداء على حقوق الإنسان وليست جزءا منها. وبدلا من أن يشغل العرب أنفسهم بمحاولة البحث عن «وقائع تاريخية» لإنكار الهولوكوست اليهودي، علينا أن نصارع من أجل أن يكون لكل شعب أو قومية أو دين أو طائفة نفس الحق الذي بات يمتلكه اليهود اليوم لأنهم كانوا ضحية بالأمس.

ولكن، بالمقابل، من الخطأ أن يعتقد بعض الكرد بأن كونهم ضحية بالأمس يبرر أن يمارسوا ظلم الآخرين اليوم، لا سيما عبر رمي كل مشاكل الكرد على فزاعات لا وجود لها مثل «الاحتلال العراقي لكردستان».

من المفارقة ألا يتذكر البعض أن البريطانيين هم الذين قرروا أن تكون كردستان جزءا من العراق وليس هناك أسطورة عن جيش عربي عراقي غزا كردستان وقسرها على أن تكون جزءا من العراق، وأن البريطانيين والأميركيين هم أقرب اليوم إلى أكراد العراق من عربه.

إنه أمر طريف، الحديث اليوم عن الاحتلال العراقي لكردستان وكأن العراق هو قوة كبرى تمتلك قدرة احتلال أراضي الآخرين، وهو اليوم ومنذ عام 1991 بلد منقوص السيادة يكثر الآخرون من الاعتداء عليه بمناسبة أو من دون مناسبة. كردستان اليوم أقوى من العراق، لأن القوة لا تقاس بالحجم بل بالتماسك، وعراق ينقسم أكراده وعربه، إلى حد أن تطغى على علاقاتهم فكرة العداوة التاريخية، لا بد أن يكون بلدا غير متماسك وضعيفا، بينما تقوى أجزاؤه وتتماسك، لأن تماسكها يغذيه خطاب الكراهية والخوف من الآخر.

وإذا أردنا أن نطرح الأمر بواقعية أكثر: هل يتصور البعض أن بمقدور الدولة العراقية أن تمنع كردستان اليوم من الانفصال إن هي قررت ذلك؟ من يصدق ذلك هو واهم ومنقطع عن الواقع. كردستان ولأول مرة في تاريخها هي جزء من العراق بإرادتها، ولأسباب عملية جدا يعرفها الكرد قبل غيرهم. بل إن عضويتهم في عراق منقسم طائفيا جعلتهم الطرف الأقوى، فها نحن نرى البعض مثلا يلوذ إلى أربيل بحثا عن حل للصراعات السياسية الوطنية، ويتحدث عن اتفاقية أربيل ومرجعيتها أكثر من حديثه عن مرجعية الدستور. السياسيون الكرد يدركون أن العراق هو اليوم حماية لهم وليس خطرا عليهم، فإقامة دولة كردية في وسط إقليمي مستنفر ضدها قد يدفعهم إلى خوض صراع إقليمي مكلف يدمر حلم الدولة الكردية حتى قبل أن تظهر إلى الوجود الفعلي. بالطبع ليس ذلك عدلا، فالكرد لهم الحق في تقرير المصير ككل الشعوب، ولكن بصراحة دعونا نسأل: هل عرب العراق تمتعوا بهذا الحق وهم خاضعون مرة لاحتلال أجنبي ومرة لمستبد محلي؟!

الحل في المواطنة، في تحرير المواطن العراقي من سطوة الهوية، ليس عبر إنكار تلك الهوية، بل عبر مساواة كل المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية. لم تعد هنالك قضية كردية في العراق، بل هنالك قضية عراقية يعنى بها جميع العراقيين بعربهم وكردهم. إنها قضية إيجاد نظام سياسي يستوعبهم جميعا ويقوم على أكبر قدر من المدنية وحقوق الإنسان، وأقل قدر من خطابات الهوية القومية أو الدينية أو الطائفية. التخندق والتعصب جعلنا نخسر يهود العراق، ومسيحيي العراق، فكم بقي لدى العراق ليخسره غدا؟!