تفكيك الجيش الموازي هو الحل

TT

الخطوة الأولى، إن كنا جادين، في نقل مصر من مرحلة الديكتاتورية إلى الديمقراطية هي في تفكيك الجيش الموازي الذي بنته وزارة الداخلية، متمثلا في قوى الأمن المختلفة التي يصل تعدادها إلى قرابة المليون، وإذا أضفنا إلى هذا العدد عائلات الضباط والمجندين وأقربائهم من المستفيدين، فنحن نتحدث عما يقرب من خمسة إلى سبعة ملايين مصري مصالحهم مرتبطة ارتباطا مباشرا بوزارة الداخلية بوضعها الحالي. بنية وزارة الداخلية المصرية، وأمنها المركزي الذي بدئ العمل به منذ عام 1966 وكبر حتى بلغ حجمه قرابة 350 ألف جندي وضابط، تهدف إلى خلق جيش مواز يقف إلى جانب الديكتاتور في حالة عصيان القوات المسلحة.

تغول هذا القطاع الأمني بشكل مذهل في عهد مبارك، بحيث أصبح جيشا رديفا. فبينما تصل قوة الجيش المصري العامل إلى 450 ألف فرد، نجد أن قوة الداخلية تصل إلى أكثر من نصف مليون، أي أكبر من حجم الجيش. في حالات السيناريوهات السيئة جدا، وفي وجود قوتين بهذا الحجم في بلد واحد، ليس بمستبعد أبدا أن تحدث مواجهة بين القوتين وتدخل البلاد في حرب طاحنة. لكن لنستبعد هذا السيناريو قليلا، رغم إمكانية حدوثه تحت ظروف معينة، ولنتحدث عن مشكلة الجيش الموازي للداخلية كعقبة في وجه التحول الديمقراطي، وأنه لا ديمقراطية إلا بتفكيك هذا الجيش الرديف.

أولا منطق وزارة الداخلية في مصر بالصورة التي نراها هو أن الأمن قوة ضاربة ولا علاقة له بفكرة البوليس في الدول المتحضرة. ففي الدول الغربية نجد أن دور البوليس هو ليس تحقيق الأمن ولكن المساعدة على تنفيذ قرارات العدالة (enforcement). فالأساس هو القانون الذي تنفذه الشرطة. أي منطق الدولة هو الدستور والقانون، ودور البوليس هو أداة من أدوات تنفيذ القوانين. أما في مصر وفي ظل الديكتاتوريات المتعاقبة منذ يوليو (تموز) 1952 نجد أن البوليس قد تحول إلى قوة شبه عسكرية، والتدريب العسكري الذي تتلقاه قوى الأمن المركزي يأخذها بعيدا عن دور الشرطة إلى دور الجيوش. الجيوش لها عقيدة، وفي الغالب تتنوع من دولة إلى دولة، ولكن القاسم المشترك بينها هو استخدام العنف ضد الأعداء لحماية أمن الوطن. واستخدام العنف والعدو هما الكلمتان المفتاح هنا. الأمن المركزي الذي تدرب على شيء شبيه بقتال العدو يتحول المواطن في عقيدته إلى عدو، والتدريب العسكري يجعل من استخدام العنف مكونا أساسيا من عقيدة قوى الأمن المركزي. إذن قد يصبح المواطن عدوا، واستخدام العنف مبرر في الداخل ضد المواطنين، هذا هو التشوه الذي حدث عندما تمت عسكرة الشرطة وتحويلها إلى جيش مواز.

كيف ننقل الشرطة المصرية من حالة العسكرة التي وصلت إليها في عهد الديكتاتوريات الثلاث الفائتة؟

البداية هي إعلان من القائمين على الحكم الآن، وربما تدشين هذا في الدستور القادم، بأنه لا رتبة عسكرية إلا للعاملين في القوات المسلحة. أي إنهاء فكرة لواء شرطة وعقيد شرطة ومقدم شرطة إلى آخر هذه الألقاب التي لا توجد إلا في العالم الثالث ببنيته الأمنية التي يختلط فيها دور الشرطي بدور رجل القوات المسلحة. في كل بلدان العالم هناك فكرة ضابط الشرطة بمعنى (officer). لكن ترتيب الألقاب يبدأ من الكونستابل للمفتش والمفتش العام، إلى آخر المسميات التي تستخدم في بريطانيا وأميركا. إنهاء عسكرة الرتب في الداخلية هو البداية لتمدين جهاز الشرطة على غرار الديمقراطيات المحترمة.تمدين الشرطة يبدأ من فك الارتباط بين العمل العسكري والعمل الشرطي، ويبدأ أيضا بأن يكون على رأس الداخلية مواطن مدني، حقوقي مثلا، مدرب تدريبا جيدا على الطرق الحديثة في معرفة الأدلة من دون اللجوء إلى العنف والتعذيب في الحصول على الاعترافات من المواطنين.

فك الارتباط بين العسكرة والشرطة هو بداية تفريغ الداخلية من حجم العنف الموجود في مؤسساتها وتحويل ضباطها إلى مدنيين مدربين على تنفيذ القوانين، فهم جزء من أدوات العدل، وليسوا صناع العدل، أو إقامة العدل. رئيس الشرطة المحلية في الولايات المتحدة الأميركية مثلا رجل مدني منتخب. فلماذا لا يكون الحال كذلك في مصر؟

ليس بالضرورة أن تحدث عملية تسريح هذا الجيش الموازي في يوم وليلة، ولكن الإصرار على أنه لا رتبة عسكرية في البلد إلا للجيش سيقلل من عدد الكثيرين ممن يدخلون كلية الشرطة لأمراض نفسية مثل التسلط على الآخرين أو سجنهم، كما فسر أحد الأطفال المصريين رغبته في أن يصبح ضابط شرطة في أحد من الأفلام التسجيلية الحديثة التي تعدها قناة «بي بي سي - العربية».

عسكرة الشرطة المصرية وتسلطها عسكر المجتمع برمته، فجعل العنف مكونا أساسيا في الشخصية المصرية. هذا المرض العضال لن ينتفي إلا بقرار يمنع الشرطة من استخدام رتب الجيش، وتغيير المسميات إلى مسميات عالمية للشرطة. هنا تنتهي الهالة المحيطة بلواء الشرطة، وتنتهي الرغبة العارمة في المجتمع في التسلط. البداية تبدأ من تفكيك الجيش الموازي، وتحويل قطاع أمن الدولة إلى قوة صغيرة ولكن مدربة بمهارات عالية تستخدم فقط وقت الضرورات الأمنية القصوى مثل الـ«إف بي آي» أو الـ«إم آي فايف».

إن لم تكن لدى القائمين على الحكم في مصر الجرأة لاتخاذ قرار كهذا، فوداعا للديمقراطية المصرية من الآن.