كردستان وصراع المحاور مع المركز

TT

الصراع من أجل القوة ظاهرة شاملة زمانا ومكانا، وإن التجارب الطويلة على مدى التاريخ أثبتت هذه الحقيقة.. يقول موسوليني في وصف التاريخ: «التاريخ من أحسن الأساتذة، لكن طلابه من أسوأ التلاميذ»، وليس ثمة من يستطيع أن ينكر أن جميع الدول، على اختلاف أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، قد التقت في جميع الأزمنة والأماكن على الصراع من أجل القوة.. إن المسألة القومية والمطالب القومية ظاهرة تاريخية صحية، تمتلك سيرورتها وصيرورتها التاريخية الممتدة سياسيا في شتى الأشكال، وبالتالي فإن كل حدث له بداياته ومساراته التي تحدد بشكل أو بآخر آفاق ومديات التطور المرحلي وفق المجريات المرئية.

مصير الشعوب في المرحلة المقبلة سيكون رهينا بالتغير الذي يطرأ على مقدرات القوة في المنطقة؛ لذا حاولت بعض الدول معالجة الاعتراف بالحقوق القومية المشروعة لكل الأجناس والأطياف بطريقة تحاول، قدر الاستطاعة، أن تخفف من تداعياتها وسلبياتها، وأن تحد من آثارها المؤذية للسلام والأمن في حالة إنكار هذه الحقوق؛ لذا كانت الإدارة الرئيسية الأولى التي لجأ إليها المجتمع الدولي في هذا الشأن هي سياسة توازن القوى في العلاقات الدولية.. والذي يخصنا هنا المسألة القومية الكردية في العراق وفي دول الجوار العراقي، كظاهرة تاريخية مرتبطة بالواقع بكل تناقضاته وصراعاته.

وبالتالي، فإن النضال من أجل رفع الغبن القومي عن الشعب الكردي من أجل التحرر القومي والمساواة في الحقوق الواجبات، يواجه تعنتا غير شرعي، وراءه ترسانة من القوانين والأعراف والأفكار، المتعلقة بأجندات الدول الإقليمية التي تحاصر العراق، وتتحسس جدا أمام النجاحات الكردية في المنطقة، وبالأخص في إقليم كردستان العراق، لكن وفق هذه الأسس ينبغي تجنب الإرادوية أو الرغبة الذاتية في اختيار الشعارات، حول مسألة تتعلق بمصير الملايين من البشر.

فالامتداد التاريخي للمسألة الكردية وتطورها الراهن، يحتمان طرح الحلول طرحا يراعي فن الممكن وتوازن القوى، بحيث يمكن أخذ حقوق أساسية ضمن إطار مساواتي، دون إثارة حفيظة الآخرين. ويجري هذا الأمر في إطار توازنات داخلية وإقليمية ودولية. وتعد القضية الكردية من أصعب المسائل التي واجهت العراق على المستويات السياسية والاجتماعية، فهي منذ ما يزيد على نصف قرن باتت مجالا للاستنزاف استمرت وتيراته حتى وقتنا الراهن؛ بسبب طبيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة من جانب، ونتيجة لتعدد الاتجاهات الفكرية المصحوبة بالتعددية القومية والعرقية والطائفية من جانب آخر، نرى أنه كلما تطور العالم من الناحية التقنية، ومن حيث المساواة واحترام حقوق الإنسان وتطبيقات الديمقراطية، تدخل هذه القضية في إشكالات، قوامها التناقض والذاتية وقصر النظر، ومحاولة بطش المطالب المشروعة لهذا الشعب بالقوة، حتى بات من الصعب على المواطن الكردي التفكير بالاتجاه الذي يضمن به وطنيته وقوميته، والمحافظة على نظامه القيمي بعيدا عن أساليب الدمار التي ابتليت بها المنطقة، بحيث أحس مأساتها عموم الشعب العراقي على حد سواء. وهذه، أي القضية الكردية، مشكلة لم تكن حديثة في الواقع، وبذور الصراع في جوانبها قد بذرت بعد تأسيس الدولة العراقية بفترة قصيرة، على الرغم من أن الحكم الملكي استطاع تأجيل الصراع (بشكله المسلح) أغلب الأحيان، لكن المسؤولين فيه، وبينهم الضباط والقادة السياسيون البارزون في العراق، لم يجدوا حلا دائما للقضية الكردية، ولم يأخذوا بالاعتبار حقوق الأكراد ومستقبلهم الآمن في العراق، بالإضافة إلى عوامل التخلف ومصالح الآخرين، الأمر الذي انعكس سلبا على احتمالات إيجاد الحلول المناسبة لها، وعلى مستويات تعقيداتها التي ازدادت حدة مع تقادم الزمن، وليس المقصود من الدعوة إلى العقلانية وفهم التوازنات، تحميل الأمة المظلومة أو القومية التي انتهكت حقوقها، وزر تداعيات الوضع الذي آل إليه البلد بسبب السياسات الشوفينية للأنظمة الحاكمة، التي بررت قمعها وبطشها للقوميات بحجة حماية مصالح الأمة السائدة.

ولأن الحركة الكردية، كأي حركة وطنية في العالم الثالث، بدأت واستمرت بالاتكال على نفسها ماليا وسياسيا وتسليحيا، فإن الخسارة الحقيقية بين جوانبها تلك الدماء الغزيرة التي أريقت، والأموال الكثيرة التي بددت، والحقوق الأساسية التي هدرت، والمعاناة الشديدة التي أحسها الشعب الكردي وعموم العراقيين، عبر أكثر من نصف قرن من الزمن. مع هذا فإن الربح المضمون في حلها هو بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة، ينعم فيه الجميع بالأمن والرفاهية والاستقرار بعيدا عن الطائفية والعنصرية، وعن النيات والمخططات غير النزيهة.

* كاتب كردي عراقي