في الجريمة غنيمة

TT

في عالمنا العربي، على الإنسان أن يتعلم على احتمال الأذى ويتطبع عل الشر. خذوا مثلا كل هذه السرقات الملونية التي شاع أمرها في هذه الأيام. كم تألمت وثرت عند سماعها. وهو بالطبع ما شعر به الجميع. هؤلاء الزعماء الذين صدقناهم وأتمناهم على مصالحنا ومستقبلنا ثم انكشف معدنهم وخيانتهم لأمانتنا. انظروا لما فعلوه. حاجة تقزز النفس. وهو ما شعرت به وعذبت روحي وبدني على التفكير فيه. ولكن مرور الزمن، والزمن خير مرهم للورم، فتح لي أنوارا لم تخطر ببالي من قبل. فلم أعد أستاء من سرقاتهم المليونية.

هؤلاء الحرامية لا يعرفون ماذا يفعلون بفلوسهم. فالاستمتاع بالفلوس كثيرا ما يصبح أصعب من سرقتها. ففيهم من تجاوز سن الشيخوخة أو أقعده المرض، فلم تعد الغانيات يعنين شيئا بالنسبة لهم، وأصبح طعامهم وشرابهم مقننا بوصفة الطبيب. يعيشون كما يعيش الفقراء المعدمون على كسرة خبز وجرعة لبن. وتراهم محبوسين في عقر دارهم خوفا من الانقلاب عليهم أو الاستيلاء على مناصبهم أو ثرواتهم. لا يدرون ما يفعلون بملايينهم غير إيداعها في البنوك الأجنبية في حسابات سرية لا يعرف تفاصيلها حتى أولادهم وأزواجهم. تمر الأعوام حتى يموت صاحبها دون مطالب بها. ينادي مدير البنك على سكرتيره ويأمره بنقل هذا الحساب إلى ملف الأموال التي ليس لها مالك. وهو ملف ضخم في معظم البنوك السويسرية التي تدير ملايين الملايين من أمثال هذه الأموال.

ماذا يفعلون بها؟ تأتي شتى الشركات الكبرى والجامعات والمؤسسات العلمية والصناعية ومجالس البلديات والدول الفقيرة تقترض منها بفوائد قليلة. تستخدم هذه الأموال في تطوير برامجها وإجراء الأبحاث العلمية والطبية المفيدة للبشرية، أو تبني بها مدنا سياحية جديدة وفنادق باذخة ومطارات في دول متخلفة بائسة، تنتفع منها شعوب فقيرة لم تر في حياتها غير أبنية لا يزيد ارتفاعها على قامة الإنسان، وهذا كله شيء جميل ومفيد في رأيي ويكشف لي أن تلك الملايين التي سرقها بعض حكامنا والكثير من المسؤولين غير المسؤولين منا قد استخدمت لمنفعة الإنسان. وإلا فماذا تراهم يفعلون بها لو أنها تركت بأيديهم؟ يقول صاحب المثل في العراق، أعط المعيدي مبلغا فتراه يأخذ امرأة ثانية به أو يشتري بندقية لا يلبث حتى يقتل امرأ بها.

وهذا ما يفعله الوزير أو المدير الحرامي. ينفق ما في يده من أموال على الأرتيستات والغانيات أو يشتري سيارة فيراري آخر طراز. يستعملها لأسبوعين ثم يصدمها ويشتري غيرها. أليس الأفضل أن يهرب سرقاته للبنوك الأوروبية التي تستعملها لفائدة الإنسان؟ لم تعد سرقاتهم تنخر في قلبي.

وكنت أتأسف على موت أو مقتل الكثير من حكامنا وزعمائنا وأذرف الدموع على فقدهم. ولكنني بعد الكشف عن صفحاتهم، لم يعد مصيرهم يحزنني قط. بل أصبحت أبكي على بقائهم، وحالي حال ذلك اليهودي الذي انهمك في البكاء وهو يرى جنازة عسكري نازي. قال له أصحابه، «على إيش كل هالبكاء ساسون.. على واحد نازي؟». قال: ليش أنا أبكي عليه؟ أنا أبكي إش حيخلصهم وهم يموتون واحد واحد؟».