أن تكون لا أحد!

TT

كان هو الأوقة والرطل.. كان المتر والسنتيمتر.. وكان خطوط الطول والعرض.. والجنيه الذهب والدرجات المئوية.. وأول كل شيء وآخر كل شيء.. مركز العالم، وكان «سببا» من أسباب البقاء والأمل والحياة والصلاة والسعادة..

كان له ولد ومات..

اسمه في ثلاث كلمات ونعيه في ثلاثة سطور يراها الناس أو لا يرونها.. ولكن أباه أصبح لحما بلا عمود فقري.. أصبح كلاما بلا معنى.. أصبح حيا بلا مبرر.. كان له ولد ومات.. انتظر ولده هذا طويلا.. انتظره أربعين عاما.. وقال الأطباء إن ميلاد هذا الطفل معجزة وحياته معجزة أيضا.. وأن يكون ابنا لرجل في السبعين وزوجة في الخمسين.. معجزة كبرى.. وما يزال العلم معرضا لمعجزات غير مفهومة.. لقد نظر إليه الأطباء على أنه دليل جديد على عجز العلم والعلماء.. ونظر الأطباء إلى ولده على أنه «جسم» الجريمة التي ارتكبت في أحد المعامل الكبرى، وأن الطبيعة قد خرقت كل القوانين.. وأخرجت للناس هذا الطفل!

ولم يكن الرجل العجوز يهتم بآراء الأطباء وعيونهم الشاردة ومداعباتهم.. لقد أصبح له ولد.. أصبح له معنى..

كان الأب مدرسا يحب كل الطلبة، ويتمنى لو كان له واحد مثلهم.. يجلس في آخر الصفوف، وينجح آخر الطلبة، أو تطرده المدرسة ويبقى في البيت! وأحس بالزمن الذي يفصله عن البيت.. وأحس بالمال الذي ينفقه والذي يدخره.. وأحس أنه أبيض اللون.. وأن له عينين خضراوين، وأن أنفه كبير، وأن شفتيه نحيلتان، وأن رأسه ضخم.. كل ذلك رآه في ابنه.. وعرف الأب دفاتر التوفير.. وعرف عشرات من أسماء الأدوية والحبوب والأطباء.. وعرف البخور والنذور والأحجبة، وخاف من الحسد، وعلق الخرزة الزرقاء في ملابس ابنه.. ووضع في صدره مصحفا صغيرا، وطرد الخادمة العجوز التي ربته؛ لأن لها عينين زرقاوين.. وأن العين الزرقاء تحسد كل شيء.. وتعلم أن يغسل الأطباق والملاعق بالماء الساخن والصابون.. ولكن الجراثيم كانت تسلك إلى الطفل طريقا آخر لا يمر بالماء والصابون.. وكان الأطباء كلما جاءوا لتشخيص المرض قالوا: إنه عدم العناية بالطفل.. إنه يحتاج إلى نظافة!!

ويزداد الأب والأم هوسا وجنونا بالماء والصابون والبخور والمقرئين..

إنه مريض من البيت.. كره العناية الشديدة.. وقيود الحنان التي فرضتها الأم والأب..

ومات كل ما لهذا العجوز في هذه الحياة، إنه بلا هدف.. بلا غاية.. بلا حياة.. إنه لا شيء.. امتنع عن الطعام.. عن الشراب.. عن الحياة.. كل طفل يراه يمسك به ويقول: ولدي!