أن تموت في أصيلة!

TT

قبل ربع قرن من اليوم، كنت أسمع من الراحل مصطفى شردي، رئيس تحرير صحيفة «الوفد» القاهرية وقتها، أن الحكومة في القاهرة لن تجد شيئا تعمله، لو أن كل صاحب موقع مؤثر في العاصمة، بذل بعض الجهد من أجل خدمة المدينة أو القرية التي نشأ فيها، فليست هناك مدينة أو قرية على امتداد مصر وعرضها، إلا وقد خرج واحد على الأقل من أبنائها، وتولى موقعا في البلد، يجعله قادرا، لو أراد، على أن يقدم الكثير، أو حتى القليل، لأبناء هذه المدينة هنا، أو تلك القرية هناك!

كان شردي من أبناء مدينة بورسعيد الساحلية، وكان يكرر هذه الحكاية كثيرا، على مسمع منا، في جريدة «الوفد» في ذلك الوقت، كلما جاءه مواطن بورسعيدي من أهل مدينته، يطلب نصيبه في خدمة عامة، من تعليم أو صحة، أو غيرهما، عن طريق بلدياته، رئيس تحرير «الوفد»، لأنه، أي المواطن، شأنه شأن كثيرين غيره، لم يكن من السهل عليهم، الحصول على ما يجب أن يحصلوا عليه، من الخدمات العامة، إلا.. بواسطة!

تذكرت تلك الحكاية، حين ذهبت هذا العام، مدعوا، لحضور منتدى أصيلة الثقافي السنوي، الذي يقام في هذا الشهر من كل عام، في أصيلة.. هذه المدينة المغربية الصغيرة التي تطل على المحيط الأطلنطي، ولا يتجاوز عدد سكانها 40 ألفا، ومع ذلك فإن ارتباط اسمها بمنتدى ثقافي سنوي مهم، على مدى 33 عاما متوالية، قد جعلها في شهرة المدن الكبيرة!

ولا بد أن الذين يتابعون أخبار المنتدى، عاما بعد عام، يعرفون أن الذي يرعاه، منذ بدايته، إلى اليوم، هو الوزير محمد بن عيسى، وزير الخارجية والثقافة المغربي السابق، ولا بد أن المتابعين يعرفون أيضا، أن بن عيسى، من بين أبناء أصيلة، وأنه، بعد أن ترك الوزارتين، في أيام الملك الحسن الثاني، قرر أن ينشغل، ثم يشتغل بشيء، يقدمه لمدينته، وهو لم يجد شيئا يقدمه لها، أفضل من أن يربط اسمها، بمنتدى مهم من هذا النوع، كان ولا يزال يجمع عددا، من مثقفي وفناني العرب في كل سنة، حول قضية محددة، يتناقشون حولها، لعلهم يصلون فيها إلى حل!

هذا العام، على سبيل المثال، كانت إحدى القضايا المطروحة للنقاش، وكنت مدعوا للمشاركة في نقاشها، هي صورة العربي في الإعلام الأفريقي، ثم صورة الأفريقي في الإعلام العربي.. كيف تبدو ملامحها، حاليا، وعلى أي نحو يجب أن تكون، مستقبلا؟!

روى الوزير محمد بن عيسى، حكاية مؤثرة، في هذا السياق.. فالشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي، ظل حريصا على حضور منتدى أصيلة، سنويا، حتى وفاته في عام 1989.. وعندما توفي في ذلك العام، ذهب بن عيسى لأداء واجب العزاء فيه، وكان هو وزير الثقافة الأفريقي الوحيد المشارك في العزاء، وحين عاد إلى المغرب، كان ابنه أمين في انتظاره بالمطار، وكان ابن ثماني سنوات، وسأل أباه في براءة: أبي.. هل مات تشيكايا؟!.. رد بن عيسى على ابنه في حزن وقال: نعم.. مات تشيكايا يا أمين!.. فعاد الابن يسأل: وهل سوف يحضر المنتدى في العام المقبل؟! وكان رد الأب تلقائيا: نعم.. سوف يكون حاضرا!

وربما كانت هذه الإجابة العفوية من جانبه، هي التي دعته إلى أن ينشئ جائزة باسم الشاعر الأفريقي الكبير، يجري توزيعها في المنتدى، كل ثلاث سنوات، وكان أحمد عبد المعطي حجازي، مثلا، من بين الذين حصلوا عليها عام 1996.

كان الوزير الجزائري عز الدين ميهوبي، من بين الذين سمعوا هذه الحكاية معنا، عن تشيكايا من الوزير بن عيسى، فعلق ميهوبي في تلقائية هو الآخر قائلا: إن صاحب المنتدى يدعونا لأن نموت في أصيلة!

وهناك، في تلك المدينة الجميلة، حديقة تحمل اسم الشاعر تشيكايا، وهناك أيضا لوحة صغيرة تحمل اسمه، وصورته، وبعضا من أشعاره!.. وإلى جوارها حديقة أخرى تحمل اسم الطيب صالح، ذلك الأديب السوداني الرائع، الذي كان من المواظبين على حضور المنتدى، لسنين طويلة، فلما رحل، قامت حديقة هناك تخلد ذكراه، وكذلك الشاعر محمود درويش، وغيرهما من الأسماء العربية الكبيرة، ذات الوزن والقيمة!

وعندما سئلت أن أقول رأيي، في القضية الخاصة بصورة العربي في الإعلام الأفريقي، وصورة الأفريقي في الإعلام العربي، ضمن آخرين كانوا مدعوين إلى مائدة النقاش ذاتها، كان رأيي على النحو الآتي: الصورة، كما نرى ونتابع، وكما أقر الحاضرون حول المائدة، صورة مشوهة، وكلا الطرفين مسؤول عن تشويهها، ولن يكون من الممكن لها أن تكون صورة طبيعية، ومتوازنة، إلا إذا أدرك العرب الأفارقة، أن مستقبلهم في جانب مهم منه، موجود في أفريقيا، وعليهم بالتالي أن يعملوا من أجل هذا الهدف، وعلى أساس من هذا الإدراك، وأن تكون البداية لنا من عند الأوروبيين في الاتحاد الأوروبي، الذين أدركوا، قبلنا، أن مستقبلهم في جانب منه، متصل بأفريقيا، فأنشأوا، ما يسمى الآن بالاتحاد من أجل المتوسط، وهو اتحاد يضم كل دول الاتحاد الأوروبي، مع دول الشمال الأفريقي، وصولا إلى دول أخرى في الشمال الآسيوي، حتى تركيا.. ولم يكن قيام الاتحاد من أجل المتوسط، من أجل سواد عيوننا، وإنما بسبب إدراك مبكر لديهم في أوروبا، بأن الطاقة المتجددة، يمكن أن يحصلوا عليها من شمس ورياح أفريقيا، فأقاموا مع بعض دولها، هذا الاتحاد الذي يمثل جسرا بين الطرفين.. وقد وكان الوزير الأردني السابق صالح القلاب، هو الذي بادر في بدء النقاش، منبها، إلى أهمية أن ندرك ارتباط مستقبلنا، كعرب أفارقة، بأفريقيا..

كنت أتابع، لسنوات، مقالات الوزير الراحل أحمد ماهر، في هذه الصحيفة، بل وعلى هذه الصفحة، عن رحلته إلى أصيلة في كل عام، وكنت أحسده - يرحمه الله - على تمسكه بأن يذهب إليها، في كل موسم، ولا يتخلف، رغم ساعات السفر الطويلة، والشاقة، التي على الذاهب إليها أن يقطعها، ولذلك فقد كانت كلمات ماهر بعد انفضاض موسم كل سنة، تجدد الأمل بيننا، في أن يكون المجتمع الأهلي المدني قادرا، ذات يوم، على أن يقدم أصيلة جديدة في كل بلد عربي، بل وفي كل محافظة أو ولاية، من كل بلد عربي، فهذا الجهد الأهلي، الذي لا ينتظر ما تجود به الحكومة، على الأطراف خارج العاصمة، لا يزال جهدا ناشئا، ولا يزال في حاجة إلى من يشجعه، ويقدمه، ويفسح الطريق أمامه!

وربما يكون الدرس المستفاد من أصيلة كنموذج أنتجه العمل الأهلي غير الحكومي، أننا، في حاجة إلى أن نعي معنى حكاية شردي التي بدأت بها هذه السطور، وهي حكاية وعاها بن عيسى، وعمل بها دون أن يسمع بها، من صاحبها، ودون أن يجمع بينهما لقاء طبعا.

وأهم من هذا الدرس، درس آخر، سوف تعيه لو أنك ذهبت إلى هناك.. فالطريق إلى أصيلة، لا يمر بالعاصمة، الرباط، لا ذهابا ولا إيابا، وهذا في حد ذاته شيء مهم للغاية، لأننا في دولنا العربية بوجه عام، وفي مصر بوجه خاص، تعودنا على أن العاصمة هي البلد، وأن البلد هو العاصمة، ولا شيء خارجها، لدرجة أن أبناء الأقاليم في مصر، على سبيل المثال، يسمون القاهرة مصر.. ولا ينطق القاهرة باسمها هذا، إلا المقيمون فيها، أو المثقفون والنخبة.. فإذا أراد واحد من أبناء أسوان، مثلا، أن يسافر إلى القاهرة، فإنه يقول إنه ذاهب إلى مصر!.. وكأن مصر هي القاهرة، والقاهرة هي مصر.. أما الذين ليسوا في قاهرة المعز، والحال كذلك، فإن لهم الله!

وكذلك الحال في سوريا.. فالسوريون يقولون عن دمشق إنها الشام، مع أننا نشأنا نتعلم في مدارسنا زمان، أن الشام هي سوريا كلها، ومن حولها دولة معها، أو دولتان!

وصف أي شيء بأنه أصيل، يعني أنه لم يتشوه، وأنه على صورته النقية التي خلقه عليها الله تعالى.. وأظن أن هذا المعنى، هو الذي تسعى مدينة أصيلة إلى ترسيخه لدى زائريها على أكثر من مستوى.. وهذا يكفي!