حلول لم تقدم بعد أجوبتها

TT

نحتاج، وبشدة، إلى أن نراقب ما يجري حولنا بعيون مفتوحة، فثمة أشياء أساسية تجري ولا بد من وصفها بدقة.

«الربيع العربي».. الحدث الأكبر في عرف المراقبين والدارسين، أقبل علينا كما تقبل الصاعقة، تجمعت غيومها، واحتشدت رياحها، ثم انفجرت، وحدث تغير كبير. تغيرت وقائع وخرائط، وتغيرت شخصيات وأحزاب، كما يتغير منزل يتم تجهيزه للرحيل، ولكن أحدا لم يعد ترتيب البيت كما يأمل.

في تونس حيث كانت البداية، ذهب الرئيس، وتغيرت الحكومة، وها نحن نشهد صراعا متجددا بين القوى نفسها، بل ونشهد صداما بين الطرفين في الشارع. يصح القول إنه تم كشف الغطاء عن المشكلة، ولكن المشكلة لا تزال ماثلة أمام الأعين. وهناك حاجة لثورة من أجل إنجاح الثورة. هل سنشاهد هذه الثورة؟ أم سنشاهد قمعا وفرضا من نوع جديد؟ لا يمكن الجزم إلا من خلال مراقبة الآتي، ونحن الآن في مرحلة المراقبة.

في مصر.. يبدو الأمر أخطر وأصعب. ذهب الرئيس، ولكن لم تذهب سياسته. وتشكلت الوزارة الثانية بضغط من شباب «ميدان التحرير»، وتم تعيين نائب لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية. رجل كفء وقدير، ولكنه أعلن رسميا خطته وقال: إن مصر لن تغادر اقتصاديا «سياسة السوق». وماذا تعني سياسة السوق؟ تعني كل أشكال التبعية الاقتصادية لما رسمه قادة المحافظين الأميركيين الجدد من أجل السيطرة على الاقتصاد العالمي، وتعني الاجتهاد في تنفيذ كل ما رسمه وخطط له البنك الدولي، تعني الخصخصة، وأسواق البورصة، وحرية شراء الأجنبي لأسهم الشركات الوطنية، ومن دون أي حديث عن السياسة الاجتماعية، سياسة العلاقة بين الأغنياء والفقراء، سياسة تقديم خدمات الضمان الاجتماعي للفقراء، أي سياسة تأمين الطعام والتعليم والصحة، حيث تتبرأ «سياسة السوق» من كل هذه القضايا. وكل هذا الذي نذكر عناوينه كان جزءا مما عانت منه مصر في العهد السابق، حيث تم صنع جنة للأغنياء، وتم إلى جانبها صنع جهنم للفقراء، إلى أن انفجرت الصاعقة، وكان ما كان. أما بعد أن هدأت الصاعقة فإن منظر الفوضى القائمة لا يسر أي ناظر.

أكثر ما يلفت النظر في أحداث مصر أن عددا كبيرا من قادة النظام السابق هم الآن أمام المحاكم، ولكن بماذا هم متهمون؟ متهمون بالفساد، ومتهمون بموقعة الجمل، متهمون بالتفريط بالمال العام، ومتهمون بإصدار أوامر قتل للمتظاهرين. وهذه أمور هامة وخطيرة وتستحق المحاكمة والعقاب، ولكن الغريب أننا لم نسمع حتى الآن، ولو لمرة واحدة، أن هناك محاكمة سياسية لأي شخص، فهل كانت السياسة الداخلية، أو السياسة العربية، أو السياسة الدولية سليمة مائة في المائة حتى أن أحدا لا يحاكم بسببها؟ وهل إذا تمت محاكمة الفاسدين وأصحاب أوامر القتل ستبقى السياسة المصرية على حالها؟ وماذا عن موضوع التبعية لأميركا؟ وماذا عن موضوع التحالف مع إسرائيل؟ وماذا عن المشاركة في حصار غزة؟ وماذا عن الاستخفاف بالتضامن العربي؟ وماذا عن نسيان أمن مصر القومي؟ سواء كان ذلك في موضوع مياه النيل، أو في موضوع تقسيم السودان، أو في موضع دارفور؟ هل ستبقى السياسة بعد الثورة والتغيير على حالها؟ سؤال أساسي وخطير لا بد أن يجيب عليه «ميدان التحرير»، وإذا استمر الجواب غائبا، أو تم إطلاق الرصاص عليه، فإننا نستطيع القول إن التغيير لم يبدأ بعد.

ومن مصر إلى فلسطين. فلسطين أصبحت غائبة عن السياسة العربية، غائبة في العلن وغائبة في المستور. وأصبحنا نواجه جرأة في التنصل منها. والمضحك المبكي أن من يتباهون بأنهم ثوريون هم الذين أصبحوا أصحاب مواقف التنصل هذه، وهم يمارسون تنصلهم بجرأة، يقولون: نحن مسؤولون عن تحرير ما يمس بلدنا، وما يمس فلسطين هو مسؤولية الفلسطينيين. وهنا تبادر أميركا، أميركا العظمى، لتعلن رفضها لهذا المنطق، ولتعلن بالتحديد أن أمن إسرائيل مبدأ أساسي تدافع عنه أميركا، فهي تتطلع إلى ما وراء حدودها، وتمد يدها لإسرائيل، ولا بد أن نسأل لماذا؟ أليس لأن إسرائيل أداة أميركا في السيطرة على المنطقة العربية؟ ألا تشكل إسرائيل تهديدا للبنان وسوريا والأردن وفلسطين؟ ألا تشكل إسرائيل خطرا على ثروة الخليج وتطرح علنا تطلعها للمشاركة فيها؟ ألم تعلن إسرائيل على لسان قادتها أن استراتيجيتها تمتد إلى إيران وأفغانستان وباكستان؟ ألا تزودها أميركا بالطائرات المتطورة التي تمكنها من تنفيذ هذه الاستراتيجية؟ ألا تزودها ألمانيا بالغواصات النووية التي تمكنها من تهديد كل مدينة عربية تقع على ساحل بحر ما؟ (أصبح لديها الآن ست غواصات نووية)، وكيف لمن لا يهتم بفلسطين وإسرائيل أن يواجه تهديدات إسرائيل لبلده؟

ويبرز في هذا السياق الرئيس محمود عباس ومشروعه بالذهاب إلى الأمم المتحدة لانتزاع قرار تعترف فيه الأمم المتحدة بدولة فلسطين، بعد أن ذهبت سدى جهود عشرين عاما في السعي وراء سراب السلام مع المشروع الصهيوني ومع الدور المرسوم لإسرائيل. إن جهود الرئيس الفلسطيني هي من حيث المبدأ جهود طيبة، ولكن الرئيس الفلسطيني مقل في الكلام والشرح، ولذلك لا بد من بضعة أسئلة:

أولا: ما هي صيغة مشروع القرار الذي سيتقدم به إلى مجلس الأمن أو إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ هل يمكن حشد التأييد الفلسطيني والعربي والدولي حول مشروع قرار مجهول الهوية حتى الآن؟

ثانيا: من المؤكد أن مشروع القرار إن كان معبرا عن المصلحة الفلسطينية، ونقيضا للمصلحة الإسرائيلية، فإن الإدارة الأميركية ستستخدم ضده حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، ولن يكون ممكنا بعد ذلك طرح موضوع الاعتراف بدولة فلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي اعتراف قابل للتنفيذ. فماذا ستكون خطة العمل في هذه الحالة؟

ثالثا: لا بد أن نذكر، وأن نتذكر، أن لدى الجمعية العامة قرارين أساسيين حول دولة فلسطين. قرار الانتداب (البريطاني) على فلسطين (كلها)، الذي يعترف بفلسطين دولة واحدة بحدودها الانتدابية الكاملة، وتخص الشعب الفلسطيني كله. ثم قرار التقسيم الصادر عام 1947 (45% لدولة فلسطين و55% لدولة إسرائيل)، فمن أي قرار سينطلق مشروع القرار الفلسطيني الجديد؟ من الأرجح أنه سينطلق من حدود عام 1967 (18% من حدود فلسطين) فهل هذا هو الهدف الذي نسعى إليه؟ وهل سيشكل هذا الهدف مكسبا إذا تم التوصل إليه؟ وبخاصة أن هناك بندا اسمه «تبادل الأراضي» ويمكن أن نسميه بند الكارثة الأكبر، إذ يبادر فيه طرف فلسطيني إلى الاعتراف بالاستيطان الصهيوني، وهو استيطان يحاصر مدينة القدس ويهدد مستقبلها؟

أسئلة كثيرة لا بد من التفكير فيها.