زعيم

TT

ثمة مشكلة مع أحمد، لكنها ليست من النوع الذي لا يحل. كلما جئت إلى موقف المكتبة وسلمت سيارتي إلى أحمد، رحب بي هاتفا: أهلا زعيم. وأعرف أن لقب الزعامة في لبنان يرن كأونصة الذهب، لكن لا علاقة لي به. وقد رجوت أحمد غير مرة إعفائي منه. لكن كان أحمد يصر، متوسلا تقريبا، «عندنا عيني هتشي ننادي أحبابنا». في المرة التالية عرضت عليه أن يجرب أي شيء آخر، فقال: «حضرتك شنو تشتغل عيني». وعندما أخبرته راق له الأمر، وقال: «هسع عندنا بالبصرة فد رجال مثل جنابك ينادونه أستاذ».

قلت لأحمد إنني أشعر بامتنان على هذا التكريم لكن لا ضرورة للتفخيم، وقد اخترعت العرب كنية الأب بالابن البكر كحل اجتماعي مثالي. نادني «أبا نصري». فكر أحمد قليلا وقال: «وداعتك عيني، عندنا في الأعظمية ما يسمون نصري. أخاف هسع أنسى. خلينا على زعيم». ورغم تعاطفي الشديد مع أحمد، الذي أبلغني أنه لجأ من العراق إلى الأردن فإلى سوريا وها هو لا يجد في لبنان عملا إلا في موقف سيارات، فقد شعرت بحنق من إصراره على لقب زعيم. عندما عدت من المكتبة وسارع يفتح الباب، قلت له، أحمد، فلنتفق على «أستاذ». ماشي الحال.

بعد غياب أشهر وجدت أحمد باشا. من دون استخدام أي لقب سارع يقول إنه تلقى رسالة من أهله في الموصل، والجميع بحمد الله بخير، لكن شقيقه الأصغر يريد الالتحاق به في بيروت، وهو في حاجة إلى تذكرة سفر وشيء من المصاريف. ولم أرهق أحمد بالسؤال عن سبب انتقال عائلته إلى الموصل، معتبرا أن المرء في هذه الحال يؤدي ما عليه. إنما هذه المرة مضاعفا، لأن الأخ العراقي المعذب اقتنع أخيرا بأنني لست زعيما ولا زاعما ولا والحمد لله مزعوما.

غياب آخر، ثم عدت. هذه المرة رآني أحمد ولم يهرع كالعادة. ظل جالسا على كرسيه عند مدخل الموقف، حتى دون أن يرفع رأسه. أوقفت السيارة وتقدمت نحوه أعطيه المفتاح وأدفع المطلوب. دخن سيجارته بعمق، ولاحظت للمرة الأولى أن شاربيه أصفران مثل أصبعيه. خيل إلي أنه لم يعرفني فحييته، وسألته، ما خطب الدنيا يا أحمد؟ فأجاب دون أن يتطلع إلي: «عيني، أستاذ، هسع صحافي وما تسمع أخبار». شعرت بحرج شديد. ما هو الخبر الخطير الذي لم أسمعه ذلك النهار. قلت «خير أحمد. ماذا في الأمر؟» قال ولم يرفع رأسه بعد: «انفجار أربيل يعني منو خبر»؟ قلت طبعا طبعا. مأساة كبرى. لكن ما علاقتك بالأمر. ولم يرفع رأسه، وقال: «شنو علاقتي؟ ليش أهلي وين يسكنون. في سويسرا؟ صرلي سنتين أحاول أطلعهم من أربيل».

دخلت المكتبة مضطربا ومتضايقا أيضا. هل كان ينقصني هموم عائلة أحمد في أربيل؟ أحصيت هموم ذلك النهار فوجدتها لا تحصى. ومع ذلك قلت لصديقي صاحب المكتبة، يا فلان كيف يمكن أن نساعد أحمد العراقي؟ فقال متعجبا أي عراقي؟ أحمد من صيدا.