صندوق تنمية الموارد البشرية «الذهبي»

TT

صندوق تنمية الموارد البشرية مثل صندوق الطائرة الأسود، مهم جدا، ولكن لا أحد يشعر بوجوده في ظروف السلامة.

ولأن ظروف السلامة الوظيفية غير متحققة في الوقت الراهن بكل أسف، فالكل يبحث عما يستطيع عمله صندوق تنمية الموارد البشرية الذي يحظى بتمويل حكومي كامل، في ظروف نقص الوظائف الذي يتضخم مع كل دفعة من الخريجين والخريجات. ربما أن ميزة التمويل الحكومي مدعاة للاطمئنان والراحة لدى الكثيرين، ولكنها في الحقيقة نقص في قوة الصندوق وعامل تخوف على المدى البعيد، فكل برنامج تنموي يقف على ساق واحدة هو ضعيف وبطيء حتى لو كانت ساقا حديدية كساق الحكومة، والمطلع على تجارب العالم يعلم أن كبرى مؤسسات الدول تقوم في عملها على ما تحصله من القطاع الخاص، سواء ضرائب أو تبرعات.

لم أصدق ما كانت تستعرضه الصديقة نادين هاني، الخبيرة الاقتصادية ومذيعة النشرة الاقتصادية في قناة «العربية» قبل أسبوع، حول صافي أرباح النصف الأول من هذا العام للشركات المدرجة بالسوق السعودية، فاتصلت بها لأستعلم، وبقدر ما كانت معلوماتها غنية ومفرحة فإنها جعلتني في حيرة. أرباح الشركات السعودية حتى منتصف العام بلغت نحو 47 مليار ريال، بزيادة 25 في المائة عن أرباح هذا الوقت من السنة الماضية، مع توقع نحو 100 مليار ريال حصاد العام الحالي.

وعلى الرغم من أنها أرقام مبشرة، وتعكس قوة السوق، لكنها تبدو وكأنها في دولة أخرى، كأنها أخبار الآخرين لا أخبار شركاتنا الوطنية، هناك حاجز ملموس بين هذه الشركات والمجتمع، جفاء غير مبرر بين الطرفين، سيؤدي بعد حين إلى فصل المجتمع إلى عالمين مختلفين، عالم القطاع الخاص وهم الأثرياء، وعالم من ذوي الدخول المتوسطة وهم رعايا الحكومة. ولم أقل طبقات بل عوالم، لأن الطبقات التي تقسم مجتمعات العالم بحسب المستوى الاقتصادي لديها سلالم تتواصل من خلالها، أما العالمان المختلفان فكل واحد منهما يسكن كوكبا مختلفا.

الحق أن بعض الشركات السعودية خصصت لخدمة المجتمع ميزانية سنوية تذهب في دعم العمل التطوعي، أو تنظيم مراكز صيفية، أو نشر ثقافة حماية البيئة، وهي أعمال تستحق الشكر قطعا، ولكنها ليست كافية ولم تمس حاجات أساسية لدولة ما زالت نامية، بل ولم تكن الشركات بهذا السلوك تشارك الوطن همه الكبير في إعداد وتوظيف الشباب.

منذ بداية مشروع السعودة، الذي يعني إحلال السعودي محل الأجنبي في العمل، كانت ولا تزال السعودة تواجه مقاومة من بعض جهات القطاع الخاص، والصحيح أن بعض ذرائع هذه المقاومة صحيحة، فليست كل الوظائف قابلة للسعودة في الوقت الحالي، كما أن تحقيق نسبة السعودة المطلوبة في كل شركة يختلف باختلاف ظروف الشركة. بمعنى آخر، استطاع أصحاب الشركات أن يشعبوا القضية ويجرونا خلفهم في متاهة التفاصيل، فاختلطت رغبة الشركات الصادقة في توطين الوظائف مع خداع بعضها الآخر التي لم تغير مواقفها. كما لم يجدِ التحفيز والترغيب الحكومي لهم في تحسن الوضع. ولكن إن رفعنا الغطاء عن السبب الحقيقي لهذه الممانعة فسنجده في فرق المرتب الذي تدفعه الشركة للأجنبي مقابل ما ستدفعه للسعودي في حال تساوت الكفاءة بين الاثنين.

الشركة التي تدفع على سبيل المثال 3000 ريال للمحاسب الأجنبي لن تقبل أن تضاعف الرقم من أجل إحلال المحاسب السعودي مكانه، والسعودي الذي يستحق هذه الوظيفة لن يقبل بمرتب لن يوفر له متطلبات الحياة الكريمة من بناء أسرة ومصروفات إعاشة وضمان صحي، لذلك فمن المهم التفكير في حلول أخرى بديلة للسعودة، أو على الأقل مرافقة لها، حلول ممكنة التطبيق ولا تجد فيها الشركات غضاضة، وترفع عنها الحرج أمام المجتمع، إن رأت أن الوقت مبكر على توطين وظائفها، فإذا استحكمت العقد فلن تقوى يد واحدة على حلها.

صندوق تنمية الموارد البشرية ممكن أن يكون وسيلة للالتفاف على الشركات المشاغبة، وفرصة للشركات الصالحة لأن تقدم ما يتوافق مع قناعاتها الوطنية، بأن يتحول صندوق التنمية إلى صندوق ذهبي يصب فيه ما نسبته 1 في المائة من صافي أرباح الشركات كل عام، هذا يعني أن يصل للصندوق خلال هذا العام، وبحسب معلومات صديقتي نادين، نحو مليار ريال، هذا المبلغ يتصرف فيه الصندوق على أوجه عدة تخدم أهدافه المعروفة، وأهمها دفع فرق المرتب الذي يستحقه الموظف السعودي في القطاع الخاص، وبحسب المثال الذي ذكرته، تقدم الشركة 3000 ريال للمحاسب السعودي، ومثل هذا المبلغ يدفعه صندوق تنمية الموارد البشرية ليكون دخل الموظف بنهاية كل شهر 6000 ريال.

إن الاستعانة بالقطاع الخاص لحل مشكلات البطالة أو الاقتصاد بشكل عام ليس أمرا مستنكرا ولا شاذا في كل بلاد العالم، ولكن ما يحصل في السعودية أن الحكومة أصبحت أكثر إغراء لطالبي الوظائف لأنها غالبا ما تقدم لهم العائد المادي المعقول، مما جعل الحكومة بكل مؤسساتها تقف عاجزة عن تقديم وظائف للأعداد الكبيرة من الخريجين كل عام.

لقد كنت ضمن حضور لقاء الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في جامعة ميريلاند الأميركية قبل أيام، حيث جاء يسوق لمشروع خفض العجز من خلال فرض (المزيد) من الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى التي يجب أن تؤدي دورها الوطني وتتحمل جزءا من المسؤولية، من خلال تضحيتها لصالح اقتصاد أميركا، على حسب قوله.

ومع اختلاف ظروف السعودية وأميركا إلا أن المبدأ واحد؛ مشاركة مجتمعية فعالة مطلوبة من القطاع الخاص.

الصعوبة الوحيدة التي قد تقابل مثل هذه الأفكار في السعودية هي أنياب هوامير السوق الذين أدمنوا وجبات ضخمة من الأرباح نتيجة لتدليل حكومي خدمي لا مثيل له في العالم، ولكنها سنة الحياة التي تفرض الفطام بعد زمن معلوم، والفطام لن يتأتى إلا بقرار من الحكومة التي لا تزال تدعم القطاع الخاص، مما يعطيها الحق في أن تمتحن وطنية أرباب الشركات، وقد أفلحوا إن تجاوزوا شح أنفسهم.

* جامعة الملك سعود

[email protected]