معركة الأمم المتحدة.. لزوم ما لا يلزم

TT

الذين ينظرون إلى الواقع السياسي من زاوية التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية، يتفهمون لجوء القيادة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة كي لا يأكل الركود قضيتها وتصبح مع الزمن وراء الأحداث والتطورات المتسارعة.

قبل اتفاقات أوسلو والتوغل في مشروع السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، كانت الأمم المتحدة هي الساحة السياسية الأهم بالنسبة للفلسطينيين والعرب عموما، وباستثناء مجلس الأمن حيث الفيتو الأميركي المصمم خصيصا لحماية إسرائيل، كانت جميع مؤسسات المنظمة الدولية ودون استثناء مرتعا خصبا للعمل الفلسطيني، ولم يحدث أن تقدم الفلسطينيون بطلب من أي نوع دون أن يلبى بأغلبية كاسحة من الأصوات، بما في ذلك اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، والتصويت لمصلحة حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ولا أحد ينسى الإيقاع المدوي حتى الآن لخطاب الرئيس عرفات التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذلك الخطاب الذي أدخل القضية الفلسطينية إلى أماكن لم تكن قد وصلتها من قبل، ناهيك عن خاتمته التي تحولت إلى أحد أهم شعارات العصر وأعني بها «لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي».

غير أن استعمال الأمم المتحدة في ذلك الزمان، يختلف كثيرا عن استعمالها الآن، كان الاحتشاد الدولي وراء الحق الفلسطيني مضمونا وسهلا ودائما في متناول اليد وأخاله كذلك حتى الآن إذا ما نظر للأمر من زاوية إحصائية رقمية، أما إذا نظر للأمر من زاوية عملية وفي زمن العلاقات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين والأميركيين، أي الزمن الذي تحكم فيه السياسة باتفاقات وحسابات واعتبارات فإن ما كان يبدو نزهة في الزمان الغابر، أضحى رحلة محفوفة بالمخاطر والأثمان الباهظة.

لقد ربط الفلسطينيون مشروعهم السياسي منذ أوسلو ربطا محكما بالأميركيين والأوروبيين، ليس المشروع السياسي فحسب وإنما كذلك الجزء الأكبر من مقومات حياتهم وإمكانات تحقيق تطلعاتهم، وبالتالي فإن هذا الربط تحول على أرض الواقع إلى التزامات يصعب التنصل منها، وإن جرت مقدمات ولو من قبيل الضغط والمناورة من أجل التنصل، فإن سلسلة من العقوبات تشهر في وجههم على نحو صريح وفظ، وبالتالي أصبح لكل سلوك فلسطيني ثمن باهظ مهما كان هذا السلوك منطقيا ومبررا وعادلا.

لقد حاور الفلسطينيون الأميركيين طويلا حول تعثر عملية السلام، والمسؤولية الإسرائيلية الكاملة عن هذا التعثر، وكان الأميركيون وفي حالات كثيرة يوافقون الفلسطينيين الرأي، ويتخذون مواقف تبدو في غاية الوضوح ضد إسرائيل وممارساتها ومواقفها المتشنجة والبعيدة كل البعد عن ثقافة السلام والمساعدة على إنجازه.. وبعد كل هبة أميركية ضد إسرائيل كان الرئيس أوباما وكبار المسؤولين في إدارته يتراجعون دون تقديم بدائل تغطي التراجع أو تبرره، كان التفسير الأميركي للتراجع واضحا وصريحا وجريئا إلى حد بعيد، «لقد أخطأنا التقدير وسامحونا ولن نعيدها ثانية».

كان الفلسطينيون يظهرون أقصى ما لديهم من سخط وتذمر، إلا أنهم في نهاية المطاف، كانوا مضطرين لتفهم الموقف الأميركي والتجاوب مع مبادراته، مع علمهم بأن المبادرات الجديدة مثل القديمة قد تملأ الفراغ لبعض الوقت، إلا أنها ستكون عرضة للتراجع وتبديل المواقف كل الوقت.

ولقد اجتهد الفلسطينيون في رفع شعار الأمم المتحدة، ليس ليقين منهم بأن المنظمة الدولية ستوفر لهم حلا معقولا يمكن أن يطبق، بل نوع من استصراخ الأميركيين والأوروبيين ودول العالم الأخرى بأن «الحقونا قبل أن تفقدونا»، ولأن الأميركيين وحلفاءهم، أدرى الناس بالطريقة الفلسطينية في العمل، فقد شجعتهم هذه الطريقة المحفوظة عن ظهر قلب في التمادي، إلى حد مشاركة الإسرائيليين في الضغط من أجل إحباط فكرة الذهاب إلى الأمم المتحدة رغم أنهما يعرفان أنها عملية رمزية إن لم تخضع لفيتو مجلس الأمن فهي خاضعة لا محالة لفيتو إسرائيل على الأرض، وفي كلتا الحالتين لا أمل بأن يتقدم الفلسطينيون نحو دولة حقيقية، حتى لو أخذوا إجماع العالم على دولة رمزية!!

إن الفلسطينيين الذين ذهبوا بالمناورة حد تصديقها وصلوا إلى مرحلة في غاية الخطورة، أي أنهم سيدفعون ثمنا باهظا للإنجاز الرمزي على حساب ما بقي من أرصدة فعلية، فهم مثلا بعد انتهاء عرس سبتمبر (أيلول) سيعودون مرة أخرى إلى الدوامة إياها، حيث العقوبات المتدرجة لن ترفع والشرط الأميركي الإسرائيلي بالعودة إلى المفاوضات دون قيد أو شرط لن يتغير، فإن ذهب الفلسطينيون بعيدا دفعوا ثمنا باهظا وإن تراجعوا فسيدفعون ذات الثمن.

لقد سافرت وفود الفلسطينيين مثنى وثلاث ورباع إلى دول اعترفت بهم قبل عقود تحت عنوان تأكيد الاعتراف، وإلى دول لم تعترف إلا أنها لن تعترف إلا إذا ضمنت تجنب غضب الإسرائيليين والأميركيين. إن دولة مثل كندا على سبيل المثال لا الحصر، لن تحدد موقفها بعد زيارة مبعوثين فلسطينيين لها، فلو كان الأمر كذلك لكان بحوزتنا عشر دول فلسطينية بدل دولة واحدة، فما أيسر تذاكر السفر، وما أسهل تحديد مواعيد مع المسؤولين في الدول للحوار، والنتيجة أن كندا مثلا لن تقول للدكتورة حنان عشراوي غير ما قالت للرئيس محمود عباس، تماما مثلما سيكون موقف أستراليا وحتى تركيا هي ذات المواقف المعلنة ولن تغيرها مرافعاتنا البليغة.

خلاصة القول أن جهدا كبيرا يبذل في الفضاء، جهدا فعليا لتحقيق نتائج رمزية، غير أن ما يخيف حقا، هو أننا ونحن نطارد الظل في القارات الخمس، نجد من يصنع الحقيقة على الأرض، إنهم الإسرائيليون الذين يوشكون على إنجاز برنامجهم التوسعي والإلحاقي على الأرض، وهذا ما لا علاج له في كندا أو أستراليا أو حتى في الصين، وبالمناسبة لنا في الصين التي نسعى لتجديد اعترافها، أقدم سفارة على وجه المعمورة فالجماعة معترفون قبل زيارة الأحمد والصالحي بخمسين سنة على الأقل، أي منذ عهد الشقيري، طيب الله ثراه.