صراخ العباسية

TT

سألت صديقا عائدا من تونس كيف الحال هناك؟ فقال: «نتمتع بالحرية بعيدا عن أمن بن علي، ونخاف من الفالتين على الأمن في كل مكان، كان يخيفنا الرجال السريون، فصرنا نخاف الزعران المعلنين، كان الآدمي والأزعر يخاف الإهانة فصار الآدمي فقط يخاف». قلت: هل يعني ذلك أنك تترحم على أيام بن علي؟ قال، «لن يترحم أحد على أيام بن علي ولن يفتقده أحد، لكننا نخاف كثيرا من المجهول الحالي، ونخشى حقا من المجهول الآتي».

أرجو ألا يخيل إلى أحد أنه يمكنني للحظة أو مرة، أن أتفهم الفساد أو الديكتاتورية أو الظلم أو العسف أو الفظاظة، لكن أسوأ من هذه جميعا غياب الدولة وانتقال القانون من الكتاب إلى الشوارع. حبيب العادلي كان على الأرجح مرتكبا ومخالفا، ولكن الذي يحكم في أمره هو القضاء وليس شباب الأحياء في العباسية. ومهما كان حكم القضاة غير عادل فهو أعدل من حكم شارع غاضب لا يعرف أحد ما هي كفاءات شبابه القانونية، أو الفكرية، أو حتى الإنسانية. فمن يؤكد لنا أنه ليس بين هؤلاء الآلاف، مئات من الثأريين والعنفيين والفوضويين وحتى اللاأخلاقيين؟

لا.. هؤلاء الذين يصرخون أمام كاميرات التلفزيون، يقولون أي شيء، لا يمكن أن يمثلوا 84 مليون مصري، والذين يصرون على حل كل القضايا الاجتماعية والمالية بالصراخ، لا يمثلون الوعي المصري ولا الهم المصري، والذين يطالبون بذهاب المجلس العسكري فورا، فليتفضلوا ويقولوا لمن سيتركون أمر إدارة البلاد؟ ربما كانت مصر – بعد الاتحاد السوفياتي – أكبر وأصدأ بيروقراطية في العالم، ولم يكن نظام مبارك حداثيا أو رؤيويا في تغيير ذلك؛ لأن كل إدارة مصرية تغرق في المشاريع القصيرة الأجل وتوفير الطحين والأرز. كان هذا الوضع كارثيا أيام عبد الناصر، وتحسن قليلا مع السادات، ثم تدهور إلى التظاهرات الشهيرة. وفي ثلاثين عاما من حسني مبارك تضاعف عدد الأفواه وبقي عدد الأفران على ما هو. والحل ليس في أن تلد التواريخ تواريخ أخرى: 23 يوليو و25 يناير والآن 6 أبريل. وجمعة الغضب وجمعة الغضب على الغضب. ومن ميدان التحرير والمعادي إلى ميدان العباسية. هذه الخفة في النط ترف يمكن أن يمارسه الأفراد لا الجماهير. لقد شاهدنا الدكتور سعد الدين إبراهيم كيف انتقل من غلو الموالاة لمبارك، وصديقا عائليا له، إلى معارض منفي، وكيف كان يعمل بالموازنات الأوروبية والأميركية ثم شاهدناه يهاجم الجميع عند «حزب الله».

الأفراد أمزجة متقلبة ومصالح متشقلبة، لكنهم غالبا لا يمثلون سوى أنفسهم، أما هذه الجماهير المندفعة لقلب كل ما أمامها فقد تحدث في هيكلية الدولة والوطن ضررا بعيد المدى وعميق الأثر. وليتفضل عقلاء مصر، من محمد البرادعي إلى سواه، ويقولوا لعشاق الميادين: اهدأوا قليلا. تعالوا نتفق. الصراخ لا يفيد.