هذا الرجل عاجز عن أي شيء.. إلا تعذيبي!

TT

أنا أعيش «تجربة موت».. والموت ليس تجربة؛ لأن التجربة هي العمل الذي يمكن أن يكرره الإنسان مرة واثنتين وثلاثا تثبت صحته.

والإنسان لا يموت إلا مرة واحدة؛ ولذلك فالموت ليس تجربة، ولو كان الإنسان يموت أكثر من مرة لأصبح الموت تجربة.

وأرى كل يوم هذه التجربة بصورة أخرى.. ففي البيت الذي أسكنه، يعيش تحت السلم رجل عجوز لا يعرف أحد من أين جاء ولا كم سنة ولا ماذا كان يعمل؟!

ولا أعرف لماذا كلما رأيت هذا الرجل أتصور مدرسا وقف في الفصل وفي يده كشف بأسماء الطلبة، وكلما نادى على اسم لم يسمع ردا.. إن الفصل كله لم يحضر، ولكنه يسمع صوتا، وهذا الصوت يدل على أن هناك شبحا في الفصل.. وهذا الرجل يشبه هذا الفصل، فكل عضو من أعضائه غائب.. العين غابت، والأذن غير موجودة، والذراعان والساقان، كل شيء فيه غائب.. كل ليلة أراه وأسمعه، وبين الحين والحين أسمعه يطلق أصواتا غريبة.. أما طريقي إلى السلم فهو محفوف بالصفائح القديمة والأقفاص الفارغة، والرجل مشغول بأشياء غريبة.

وفي بعض الأحيان أعود إلى البيت فأجد الباب الخارجي مربوطا بالحبال، وأستعين بأحد العمال الواقفين أمام الباب ونمزق الحبال بالسكاكين، وأدخل فأجد الرجل مشغولا بتفريغ الصفائح، وليست الصفائح إلا ترابا، وفي التراب ملاليم وقروش.

وأحيانا أجد الرجل وقد تمدد على السلم نصف نائم، ونصف ميت، ونصف إنسان.. إنه شيء بغير حياة، وتعودت أن أضع في جيبي علبة من الكبريت لكي أضيء طريقي؛ حتى لا أدوس عليه فأعجل بموته، وأتحول إلى قاتل في لحظات.

كل ليلة أرى هذا الرجل، كل ليلة أرى رجلا يموت، رجلا قد تحول إلى تراب.

إن هذا الرجل ميت فعلا؛ لأن الموت ما معناه؟ الموت هو الحالة التي يصبح فيها كل شيء مستحيلا، النظر مستحيل، والسمع مستحيل، والتنفس مستحيل، ثم لا يكون زمن، ولا يكون يوم ولا غد ولا أمس.

وكلما ازدادت المستحيلات في حياة إنسان ازداد اقترابه من الموت.

إنه لا يتكلم ولا يدري بأحد، إنه يدب على الأرض، ويدب في الحياة، إنه يطردني من الحاضر ويرميني في جحيم الماضي، إن هذا الرجل هو المستحيل نفسه، عاجز عن أي شيء.. إلا تعذيبي!

أدعو الله أن يريح هذا الرجل؛ لكي أستريح!