صناعة «الربيع العربي»

TT

في دنيا «الأكاديمية» هناك دائما «صناعة» رائجة من نوع ما؛ وتشعر بها عندما تتعدد الندوات والمؤتمرات وتتفرع من نوع إلى آخر من فروع المعرفة، فتنتقل من العلوم السياسية إلى الاقتصاد السياسي ومنهما إلى الاقتصاد والاجتماع حتى نصل إلى من يحاول الجمع بين كل الفروع والأصول في حزمة واحدة. ومنذ شهر مارس (آذار) الماضي وجدت نفسي أنتقل من عاصمة إلى أخرى لحضور منتديات عن الربيع العربي The Arab Spring حتى فاق عددها ما حضرته في القاهرة حيث الاجتماعات على مرمى حجر من ميدان التحرير حيث سارت الثورة وعبرت من الربيع إلى الصيف.

ومن الخبرة الماضية وجدت أن الصناعة الأكاديمية في موضوع معين تكبر كلما كان الموضوع مفاجئا وأخذ الجماعة العلمية على غفلة أو وهي متلبسة بأن أدواتها قاصرة عن إدراك ما تكنه صدور البشر. حدث ذلك عندما وقع الفلسطينيون والإسرائيليون اتفاق أوسلو الشهير، وجاوره معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية، بعد عقود من اتفاق إسرائيل مع مصر. وأيامها وطوال عقد التسعينات بكامله جرت صناعة كبرى تحت اسم «عملية السلام» ولجانها وما تفرع عنها من لجان. وعندما جاءت المفاجأة العظمى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية في عام 2001 انفتحت طاقة السماء عن صناعة كبرى عن إرهاب الإسلام السياسي. لم يكن الإرهاب في حد ذاته بعيدا عن الحياة الأكاديمية، فقد حفر لنفسه مكانا منذ وقت طويل في دراسات العنف السياسي، ولكن أن يصير صناعة فإن ذلك أمر آخر. وظل حال الصناعة رائجا على مدى عقد كامل، وجرى على حوافه صناعات أخرى عن صراع وحوار الحضارات. وقبل أن ينتهي العقد الذي ذهب وفي عام 2008 جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية لكي تدهش الجميع ويقف أمامها الاقتصاديون قبل غيرهم حيارى، في عالم لا يكف عن مفاجأة الذين يعيشون فيه.

هذه المرة كانت المفاجأة تحت عنوان «الربيع العربي» على الرغم من أن البداية في الثورة جرت في تونس وتلتها في مصر وكلاهما حدثا في الشتاء؛ وما جرى بعد ذلك من أحداث استمر في الربيع وامتد إلى الصيف، حيث الثورات في اليمن وسوريا وليبيا دخلت مراحل دموية أوسع انتشارا. وربما كان ذلك هو ما أعطى للصناعة ما تحتاجه من مدد، فالأحداث كثيرة ومتنوعة، والأهم من ذلك كله أن العالم الغربي كله بات مهتما ومأخوذا بما جرى له من مفاجأة.

والحقيقة أن صناعة «الربيع العربي» لم تبدأ هذه المرة فقط، فقد كان لها سابقة في عام 2005 وما تلاها، عندما قرر الرئيس الأميركي جورج بوش الابن أن معضلة العالم العربي تكمن في غياب الديمقراطية ومن ثم بدأت حملة دعائية، وحملات دراسية وأكاديمية، ومعونات شتى راحت تنهال على «المجتمع المدني» وجمعيات حقوق الإنسان لعلها تخرج عالمنا العربية مما اعتلاه من سبات وجمود. وكان ما حدث في تلك الأيام من «ثورة الأرز» في لبنان، وتبعتها تعديلات دستورية في مصر، ومنحت المرأة حق الانتخاب في الكويت، وذهبت دول عربية لم تعرف الانتخابات قط في اتجاه نوع من الانتخاب للإدارة المحلية في القرى والنجوع، ووصلت المعارضة إلى الحكم في بلد عربي أظنه كان المغرب. ومع وضع هذا كله بعضه فوق بعض أطلق الربيع العربي الأول، ولكنه سرعان ما ثبت أنه ليس مقنعا كثيرا، حيث سرعان ما هدأت الأحوال وتوقف ما بدأ من إصلاح أو ظهر أنه لم يكن هناك إصلاح من الأصل، أو أن ما نتصوره ديمقراطية في بلادنا ليس كذلك في بلدان أخرى.

هذا العام بدا الأمر صدقا، وبات ضروريا معرفة أصوله وفصوله وفقا لمعطيات وفرضيات غربية فصار الشتاء ربيعا، وجرت الزهور مثل اللوتس والياسمين كأسماء ثورات تماما مثلما جرى من قبل في أوروبا الشرقية وغيرها في العالم. المهم هنا أن الصناعة تصير مددا ماليا لطوائف كثيرة من مراكز البحوث وجمعيات المجتمع المدني لبحث أسباب الذي جرى وكان، وكلها وراءها ذلك السؤال الذي لا يريد أن يطرحه أحد وهو «لماذا كانت المفاجأة؟»، وهل كان هناك سبيل للتعرف عليها قبل أن تبدأ العواصف وتندفع الرياح والأعاصير؟ والغريب أنه في العالم العربي حيث جرى الشتاء والربيع معا لم يبد أن هناك من يريد أن يعرف، فلا أحد دعا أو سأل لماذا جرى ما جرى وهل كان هناك من سبيل لتفاديه، فما يحدث في بلادنا ليس دائما لأنه كانت له مقدماته وأسبابه، وإنما لأنه يأتي دائما كالقدر المحتوم والقضاء النافذ.

الفكرة الغربية هي أنه حتى لو حدثت المفاجأة عدة مرات، فما عليك إلا أن تواصل المحاولة، وصناعة الفكر يكون في أحسن حالاته عندما يقوم على جماعات كثيرة تنافس بعضها البعض لكي تنتج تفسيرا لظاهرة أو فهما أفضل عنها. وفي المسألة الثورية، فإن الموضوع متشعب، وله أجزاء كثيرة، ويدخل فيه لاعبون مثل الجمعيات الأهلية والإعلام والإعلان، وهؤلاء جميعا لهم ساعة الجد أدوار يحتاج التعرف عليها دراسات وعروضا ومناقشات وحوارات.

المسألة ببساطة أن «الربيع العربي» متداخل مع مصير المنطقة كلها، فهو يعني في جوهره إعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة كلها. فما جرت ثورة في العالم إلا وذهبت في طريقة لعبة الكراسي الموسيقية التي عندما تتوقف يوجد ساعتها من يبقى في الساحة ويذهب بعيدا عنها من يخرج منها. وهكذا تتغير التحالفات، ويعاد النظر في الصراعات، ويصبح للسلام معنى آخر، ويتغير التناقض ما بين الحكم والمعارضة في الدول لكي يصبح ما بين الثورة والثورة المضادة. ومشكلتنا الأزلية في منطقتنا هي وجود إسرائيل التي توجد على رأس الأسئلة حول ما الذي سوف يفعله الربيع العربي بها. في ندوات مختلفة كان التصور أن الربيع العربي ربما يخلق ظروفا مواتية لإسرائيل لأن الثورات مشغولة بداخلها، وإذا كانت الثورات ديمقراطية فإن المثل جرى أن الديمقراطيات لا تحارب ديمقراطيات أخرى. ولكن استمرار البحث وضع المسألة كلها على محكات أخرى بعيدة عن العنف، ولكنها قريبة من رفض الأمر الواقع والعمل على تغييره بوسائل تعتمد على قوة الشعب، وضغط الجماهير، واستخدام الشرعية سواء كانت في الأمم المتحدة، أو في الانتخابات العامة لخلق موقف قائم على الندية بين العرب من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى. وهي ندية لا تقوم على النظام السياسي والديمقراطية، ولكنها، لو استقامت الأحوال، لكان معناها إعادة بناء القوة العربية من جديد إلى الدرجة التي تتغير فيها موازين القوى ومن ثم يصبح تغيير السياسة من تحصيل الحاصل. هل هذا من الممكنات؟ تعالوا ننتظر ونر!