الإرهاب الأشقر!

TT

يترسخ الاعتقاد مع كل عملية إرهابية تضرب بفوضاها عالم اليوم بأن التطرف والعنف حالة مستقرة تنتظر مسبباتها وليس مجرد احتقان أو موجة عابرة.. تختلف المرجعيات وتتباين الدوافع، لكن يظل المحرك والخطاب النظري متشابها حيث التعصب لا دين له ولا مذهب.

اليوم الدامي الذي وقع في النرويج وراح ضحيته حتى هذه اللحظة قرابة المائة لا يزال غامضا في دوافعه أو من يقف وراءه بالتحديد إذا ما استثنينا منفذ العملية، حيث يذهب العديد من المحللين إلى أنه أقرب إلى التصرف الفردي، أو هكذا يراد له أن يحجم، في حين أن مثل هذه القراءة الأمنية أو القانونية لا تساعد كثيرا على فهم ظاهرة ليست بجديدة وهي إفرازات اليمين المتطرف وخطابه العدائي الذي يمكن لبعض أفراده مثل أندرس بيرينغ، الشاب الثلاثيني، أن يذهب بذلك الخطاب المتعصب إلى مداه الأقصى فيقوم بعملية نوعية تعزز من مفردات الخطاب ومسؤوليته الأخلاقية والفكرية التي يجب أن يتم فهمها خارج إطار المسؤولية الفردية والقانونية التي تطال المنفذ، وهي الإشكالية التي تتكرر دائما في الحديث عن الإرهاب النظري كمؤسس للإرهاب العملي.

رد الفعل تجاه كارثة النرويج كان صادما إذا ما نظرنا إليها من زوايا مختلفة؛ فالإعلام الغربي وقع بعد الحادث مباشرة في فخ «التنميط والنمذجة» ولا يكاد يستثنى من تلك السقطة الصحف العريقة مثل الـ«واشنطن بوست»، بل حتى منافذ الإعلام الجديد وعلى رأسها «تويتر» الذي زخر بتعليقات كثيرة تشير بأصابع الاتهام إلى المهاجرين المسلمين أو تحاول تنشيط الذاكرة بواقع الخلايا الجهادية النائمة في أحضان الغرب الدافئة!

صحيفة الـ«صن» الشعبية وصفت الحادثة بـ«مذبحة (القاعدة) الجديدة» و«11 سبتمبر النرويجي»، بينما أوردت الـ«واشنطن بوست» تحليلا للكاتبة الأميركية جنيفر روبن، أكدت فيه أن متطرفين مسلمين وراء هجمات أوسلو بالنرويج قبل أن تكشف السلطات النرويجية عن هوية الإرهابي، الذي اتضح أنه ليس مسلما، بل ويعادي الإسلام، وبين السقطتين؛ الشعبية والنخبوية، خاض خبراء الإرهاب الغربيون في افتراضات «قاعدية» تعزز من أزمة تنميط الإرهاب ومحاولة أسلمته بالقوة؛ حيث حاول مستشار وزارة الخارجية الأميركية المختص بمكافحة الإرهاب ويل مكانتس إلصاق التهمة بـ«القاعدة» اعتمادا على بيان ابتهاجي في شبكة الإنترنت.

هذه «النمذجة» يمكن فهمها في السياق الغربي، وإن كانت مرفوضة ولا يمكن تبريرها بحال في إطار ما يمكن تسميته العدو الافتراضي؛ فالتاريخ الطويل من العمليات الإرهابية التي حفل بها سجل تنظيم القاعدة جعل حالة الاستسهال جزءا من العيوب والنتائج السلبية لمخرجات الإعلام الذي يمر بتحولات هائلة على مستوى المصداقية ومرجعية الخبر وطريقة نسبته للمصدر بسبب حالة التنافسية بين الإعلام الجديد والتقليدي، لكن ما لا يمكن فهمه، فضلا عن تبريره، حالة الابتهاج التي بدأت تطفوا على السطح ولا تخطئها العين في التعليقات الكثيرة التي لا ترى في الكارثة النرويجية أبعد من كونها صادرة من متعصب يميني متطرف ليس له علاقة بالتنظيمات الإسلامية! وهو الأمر الذي يطرح إشكالية فهم قطاعات واسعة من المثقفين والمفكرين الإسلاميين لموضوع «الإرهاب» وكونه حالة لا تنتمي للمجال الديني أو تقوم فقط على أسباب احتجاجية أو بسبب أوضاع التهميش وضياع الحقوق ولأسباب تتصل بالاستبداد السياسي، بل هي آيديولوجية متطرفة قد تتذرع بكل ما سبق وتقتبس منه، لكنها تظل شكلا منفصلا من ممارسة التعبير غير السلمي لا يمكن أن تكون مبررة إذا كان فاعلها ينتمي لفضاء ديني أو فكري أو جغرافي، بينما تكون نقمة ودلالة على التعصب وبغض الأديان إذا جاءت من الضفة الأخرى، وإذا ما استثنينا بعض البيانات الصادرة من منظمات إسلامية رسمية، فإن رد الفعل تجاه الكارثة كان سلبيا للغاية، وهو ما يعيد فتح سؤال مدى أصالة وتجذر رفض العنف كأداة للتغير في خطاباتنا الثقافية السائدة.

كارثة النرويج تؤكد أن الآيديولوجيا المتطرفة خطاب مستقل بذاته له محدداته الفكرية، فهو يستند إلى فكرة أحادية لا ترى في العالم سوى ذاتها وتحاول أن تفسر الآخرين على رؤيتها الخاصة تلك، ومن هنا يمكن إيجاد نقاط التقاء وتقاطعات في الأدوات وآليات التفكير والتنفيذ بين كل العمليات الإرهابية.

فإذا كان التطرف الديني وفكر الجماعات المسلحة يقوم على جانب نظري وآخر عسكري وثالث إعلامي، حيث اختزال نصوص ما وتحويرها لتبرير العنف مع العزلة عن المجتمع والتدرب على حمل السلاح والتفجير واستغلال الفضاء الإعلامي، لا سيما الإنترنت، هو مثلث استراتيجية «القاعدة» في حربها المعولمة العابرة للقارات؛ فإن الشيء ذاته يمكن رصده في المعلومات الأولية التي تم رصدها في بروفايل أندرس بيرينغ برييفيك الذي يريد عودة «فرسان الحق» إلى العالم، فقد وجد في سجل مشاركاته على الإنترنت والوثائق التي كتبها لتطهير العالم من الماركسيين والإسلاميين، بالطبع تم التركيز في طروحات المبتهجين على العداء للإسلام فقط دون اليسار والمهاجرين الغرباء.. وجد في إحدى مشاركاته الاستدلال بمقولة الفيلسوف البريطاني روبرت ميل الشهيرة والتي يقول فيها: «قوة رجل واحد مؤمن تعادل قوة مائة ألف رجل تحركهم المصلحة».

من جانب آخر، لمحت الصحف النرويجية وشبكات التلفزة كصحيفة «VG» وشبكة «NRK» إلى أن برييفيك عضو في أحد الأندية المحلية المخصصة للأسلحة النارية ولديه خلفية عسكرية، بل أطلق على نفسه لقب «قائد فرسان الحق» في كتاب إلكتروني منسوب له تجاوز أكثر من 1500، كما أكدت الأجهزة الأمن النرويجية استغلال برييفيك لعمله في مجال الزراعة حيث قام بشراء مواد كيميائية تستخدم في صنع المتفجرات من مؤسسة بولندية.

في الجانب الإعلامي، الضلع الأهم في العقل الإرهابي، قام برييفيك وطبقا لصحيفة الـ«تليغراف» اللندنية ببث فيديو مدته 12 دقيقة على «يوتيوب» قبل ساعات من ارتكاب جريمته شجع فيه على قتال المسلمين واعتبر وجودهم امتدادا للأفكار الشيوعية، وقد ظهر مرتديا ملابس قتال حاملا سلاحا آليا، مستعرضا أشهر الشخصيات الغربية التي اشتركت في الحروب الصليبية!

هذا التطابق العجيب في ملامح العقل الإرهابي يقودنا إلى ضرورة قراءة الظاهرة في جذرها الفكري والآيديولوجي وليس الاقتصادي والاجتماعي فحسب؛ فكثير من الإرهابيين لا يعاني من أي مشكلات في هذا الاتجاه، بل إن قراءة خطابه أو وصيته قبل العملية توضح مدى حال الاستقرار النفسي التي تملأ قلبه، مما يحيلنا إلى أهمية قراءة العنف من زاوية الدافع أو ما يسمى بـ«الفكرة المسيطرة»، بحيث تنتهي قيمة الوجود لديه، لأنه يأمل في حياة أخرى وفق رؤيته الضيقة التي لم تعد تتسع لها الحياة الحقيقية في الواقع، قراءة فاحصة لاحتفالية بالموت كهذه هو جزء من إعادة الاعتبار لقيمة النفس البشرية ولقيمة الحياة.

[email protected]