جريدة ذلك اليوم

TT

في أيام مضت كنت أعبر بيروت مشيا. وكان في ذلك متعتان: بيروت والمشي. وكانت بيروت صغيرة في أي حال، وأهلها يحيون بعضهم البعض. وصارت معظم الوجوه مألوفة حتى في ساعات الزحمة والاكتظاظ. ويألف المشاة بصورة خاصة وجوه البائعين وأصحاب المحلات والشحاذين. وهؤلاء كانوا قلة شديدة. نفر من بضعة رجال أو نساء لهم مواقعهم ومراكزهم وطرقهم في عرض الحال وتحسين الأحوال.

مع الوقت، لاحظت أن أحدهم كان «متنقلا» أو «متحركا» وذا أسلوب مبتكر. فقد كنت أمر ببعض الأحياء فأراه يقتعد الرصيف وإلى جانبه نسخة قديمة من صحيفة «النداء»، جريدة الحزب الشيوعي. وفهمت أن في المنطقة شيوعيين يريد عطفهم. وأمر أحيانا قبالة «الفينسيا» فأراه جالسا وإلى جانبه نسخة قديمة من «الاوريان». وعندما أراه على الروشة كان يضع إلى جانبه نسخة أو أكثر من «النهار».

حدث بيننا تواطؤ ضمني. كنت أعطيه شيئا ما، من دون أن أشعره أنني عرفت وجهه من مرة سابقة في حي آخر. وقلت في نفسي إنها طريقة ذكية في تجربة الحظ وعطف الناس، في شرق بيروت وغربها. بطبقاتها المحدودة والميسورة. بميولها اليسارية واليمينية.

جمعتنا قبل أيام سهرة مع اللواء سامي الخطيب، ربما أشهر اسم في تاريخ المكتب الثاني اللبناني الذي سمي «سلطان بيروت»: وسأله أحدنا كم كان عدد المخبرين أيامه، هل بلغ عشرين ألفا؟ وأجبت عنه متحزرا «أعتقد أنهم كانوا خمسمائة». وهز أبو بديع رأسه موافقا. وعاد السائل يقول، كم كان عدد الخطوط الهاتفية التي تراقبونها، فأسرعت إلى القول: مائة! وهز أبو بديع رأسه معترضا: كانت ستين خطا! كان الأمن مذهلا. وراحت الأسئلة والذكريات تروى. وعاد السائل يقول، مندهشا ومشككا، كيف يمكن لخمسمائة «عنصر» أن يحققوا أمنا كالذي كان قائما في لبنان. ثم إنه هو - السائل - يعرف أنه كان في كل قرية مخبر وفي كل حي مجموعة مخبرين. ورد وزير الداخلية السابق: هذا ما أردناك أن تصدق. تخيل لو شعر الناس أن المكتب الثاني قاصر ولا وجود له. وشرح كيف كانوا ينتقون الأماكن والناس والمناطق وكيف يحركون عناصرهم.

وأراد أن يعطي مثالا على ذلك، أي على فاعلية التنظيم والإدارة بأقل عدد وأرخص كلفة. قال الصديق العزيز وأنا أصغي إليه وإلى ذاكرتي: مثلا: نرسل في ساعات العمل عنصرا يراقب الشيوعيين. ثم نرسل العنصر نفسه في ساعات السهر يراقب الأغنياء. ولكي لا نثير الشبهة نعطيه جريدة قديمة. فلو حمل جريدة ذلك النهار لقالت الناس كيف لشحاذ أن يصرف ربع ليرة ثمن صحيفة.