الفيلسوف يتأمل الشاعر الأعمى!

TT

منذ سنوات ذهب مئات الألوف من الناس إلى متحف المتروبوليتان في نيويورك لمشاهدة لوحة للفنان الهولندي رامبرانت اسمها «الفيلسوف أرسطو يتأمل الشاعر هوميروس». هذه اللوحة اشتراها المتحف بمليوني دولار وجاء الناس بالطائرات والسيارات والسفن لمشاهدة هذا العمل الفني العظيم.. وجاء عشرات الألوف من طلبة المدارس والجمعيات الخيرية.. كلهم جاءوا ليروا هذه اللوحة.. وليتساءلوا: ولكن لماذا ينظر الفيلسوف إلى الشاعر؟ ولماذا اختار الفنان للفيلسوف ملابس رجل هولندي غني؟! وما هو المعنى؟ وما هو الهدف؟ وما هي الفائدة؟ وهل تساوي هذا المبلغ؟

هذه اللوحة الرائعة التي هزت الحياة التجارية في أميركا قد استقرت في الدور الثاني بين عشرات اللوحات لنفس الفنان ولم يعد أحد يلتفت إليها بهذا الجنون.. ولكن الناس ذهبوا ليروا وليتحدثوا بعد ذلك.. وليقضوا على الملل والقرف والضيق اليومي في حياتهم.. ولكن هذه اللوحة ليست إلا فكرة فنان عاش ومات منذ ثلاثة قرون يروي فيها كيف أن فيلسوفا عاش ومات منذ ثلاثة وعشرين قرنا يتأمل شاعرا عظيما مات قبله بخمسة قرون.. إنها فكرة رجل عن رجلين ورآها مئات الألوف وكل واحد خرج بالمعنى الذي يريده أو يريحه.

وأهم من ذلك أن رجلا في هذا المتحف استطاع أن يثير الناس بفكرة له هو.. هذه الفكرة لا علاقة لها بالفن أو الشعر أو الفلسفة.. إنها فكرة تجارية سياحية من الدرجة الأولى!

وليس بعيدا معرض توت عنخ آمون في لندن.. فهذا الملك الذي حكم مصر ست سنوات ومات في الثامنة عشرة من عمره كان حلم الملايين.. كل واحد يريد أن يرى شيئا.. أو يرى نفس الشيء ليخرج بمعنى آخر.. وتوت عنخ آمون ليس شخصية هامة في تاريخ مصر.. فهو ملك لا قيمة له.. ولكن قيمته جاءت من أنه صاحب مقبرة سليمة وتابوت لم تمسه أيدي اللصوص.. فهو عمل فني لحانوتي مجهول.. أو هو صورة باقية رائعة لفن النحت والنجارة والتحنيط عند الفراعنة.

وهو في نفس الوقت يدخل تاريخ الحضارة البريطانية التي تعاونت صحافتها مع علمائها على كشف هذا الأثر التاريخي الرائع.

والناس عندما ذهبوا لرؤية توت عنخ آمون لم يذهبوا للفرجة على الشخص وإنما على الفكرة الفنية.

وفي كتاب للكاتب الفرنسي روبير تاتويزر جاءت هذه العبارة: ولما سئل رجل يقف في نهاية الطابور وقد حمل طعامه وعلبة صفيح بها كوكا باردة: وأنت لماذا جئت؟ فقال: عندي سبع دقائق.. فقد تعطلت سيارتي وسوف تحضر ابنتي لانتشالي..

ويقول الكاتب: ولم أشأ أن أساله عن رأيه في الفنان رامبرانت أو في لوحة الفيلسوف أرسطو وهو يتأمل الشاعر الأعمى الخالد هوميروس!