ملامح الصراع الإيراني ـ التركي على سوريا والخليج

TT

يبدو أن توافقا تم التوصل إليه في إيران لإبقاء الخلافات الداخلية بعيدة عن الانفجار لأن التركيز على الأهداف الإقليمية أهم للقيادة الإيرانية، خصوصا أن طهران تريد كسب الاستحقاقات التي بذلت جهودا كثيرة لتحقيقها، لأنها تدعم بقاء نظامها.

السباق مع الزمن تتقنه القيادة الإيرانية مع بحثها المستمر للالتفاف على السعودية. تعرف حاجتها الدائمة لثقل سُنّي يقف إلى جانبها. مصر مترددة، وتركيا بدأت تنافسها بشدة، لذلك رمت بإغراءات اقتصادية كثيرة على باكستان، فأرسلت إسلام آباد مجموعة من رجال الدين السنّة المتشددين لإجراء لقاءات موسعة مع رجال الدين الشيعة في إيران لإظهار أن عناصر «غير مسلمة» هي المسؤولة عن التوتر الذي تعمّق بين المذهبين في السنوات الأخيرة.

دأب المسؤولون الإيرانيون في الفترة الأخيرة على القول إن الولايات المتحدة تبذل المساعي للوقيعة بين دول المنطقة لمنع إقامة ترتيبات أمنية «ولن تنجح» وإن الأساطيل الأجنبية في الخليج مضرة «ولن تبقى» طويلا فيه.

إذا نجحت إيران في ملء فراغ القوة الرئيسية في العراق البلد الذي يلامس ست قوى رئيسية في الشرق الأوسط، تكون إيران نظريا قد ضمنت حدودها الغربية، فضلا عن منفذ للنفط بحيث تمدد نفوذها أكثر.

حتى الآن، تسير الخطة الإيرانية على الطريق الصحيح، إذا لم يستنزفها الوضع السوري. فإذا لم تنجح الولايات المتحدة في إبقاء قوات عسكرية في المنطقة (العراق)، فإن إيران ستحل محلها باعتبارها القوة العسكرية الأقوى في منطقة الخليج. فهي لديها القدرة العسكرية لتهديد مضيق هرمز، كما أن لها شبكة سرية من العملاء منتشرة في المنطقة. وعبر تغلغلها العميق داخل الحكومة العراقية تتمتع بأفضل وضع للتأثير في صنع القرار العراقي. وصراع واشنطن للتفاوض على التمديد للقوات الأميركية في العراق من أوضح الأمثلة على إصرار إيران لتأمين حدودها الغربية. ورغم انشغال العالم المتقطع بالمسألة النووية الإيرانية فإن الأكثر إلحاحا بالنسبة إلى إيران هو تعزيز موقفها في العراق. وما توغلها في شمال العراق (ظاهريا لمحاربة المسلحين الأكراد) إلا محاولة لنقل هذه الرسالة.

لكن، وإيران في طريقها لتحقيق أهدافها في العراق فإنها تحتاج إلى أمرين أساسيين لاستكمال الترتيبات الأمنية التي تتطلع إليها في الخليج. الأمر الأول التفاهم مع الولايات المتحدة. والثاني التفاهم مع السعودية خصمها الإقليمي الرئيسي. وفي إعادتها لرسم سياسة الخليج تحتاج إيران أن تقنع جيرانها من الدول السُنّية، بأن مقاومتها لا تستحق التكاليف خصوصا أن الولايات المتحدة ليس لديها الوقت أو الموارد اللازمة لتأتي للنجدة. لذلك، فإن هدف إيران الآن إجبار القوى السُنّية الكبرى في المنطقة على الاعتراف بتوسيع نطاق النفوذ الإيراني.

بالطبع، هناك دائما فجوة كبيرة بين النيات والقدرات خصوصا في ما يتعلق بالحالة الإيرانية.

ونسمع من يقول من المراقبين السياسيين إن العراق سيكون «مقبرة» الطموحات الإيرانية والنظام الإيراني نفسه. وإنه بسبب أهداف هذا النظام، فإن النظام السوري مهما حاول، فإنه ذاهب إلى السقوط حتى لو قدم كل التنازلات المطلوبة منه ولو إلى درجة تعريته. إذ لا يمكن السماح لإيران بتحقيق انتصار قد يكون الأول من نوعه في المنطقة وفي التاريخ عبر «نفوذ» يبتلع العراق ويتمدد إلى سوريا وما بعدهما.

إيران ترى خططها تطورا طبيعيا يستحق الانتظار لعدة قرون، فخسارة الإمبراطورية الصفوية للعراق إلى العثمانيين أدى إلى هيمنة السُنّة على السلطة في بلاد ما بين النهرين، وشرق السعودية وبلاد الشام منذ القرن السادس عشر. والآن حان الوقت لتنقلب المعادلة لمصلحة الشيعة في هذه المنطقة.

ليس من المستغرب إذن القلق الخليجي من التطور السياسي في العراق، لذلك سوف يعتمد الخليجيون بشكل متزايد على قوى إقليمية مثل تركيا للحفاظ على السُنّة حصنا ضد إيران في العراق، وإن كانت بعض دول الخليج اقتنعت الآن بأن العراق سقط في يد إيران.

للولايات المتحدة ثلاث مصالح أساسية: الحفاظ على تدفق النفط عبر مضيق هرمز، وخفض كبير لعدد قواتها إلى خصصتها لقتال المتشددين الإسلاميين من السُنّة الذين هم أيضا في حالة حرب مع إيران، ومحاولة إعادة توازن القوى في المنطقة بحيث في نهاية المطاف، تمنع أي دولة لوحدها، سواء كانت عربية أو فارسية، من السيطرة على كل نفط الخليج. (تجربة صدام حسين عندما احتل الكويت، معروفة نتائجها، أدت إلى إنهاء نظامه).

وهناك من السياسيين الغربيين من يقول، إن وضع الولايات المتحدة الآن أكثر مرونة مما كان عليه في التسعينات، وإذا توصلت إلى استنتاج بأنه ليس لديها خيارات جيدة، في القريب العاجل، للتعامل مع إيران، فإن نوعا من «التساكن» بينهما ليس مستبعدا.

والشرح لهذا الطرح كالتالي: ما تريده واشنطن الآن هو وضع القوات الأميركية في العراق، طهران تفضل انسحابا كاملا لهذه القوات، لكنها قبلت بتقليص أعدادها.

قد تكون الولايات المتحدة مستعدة للاعتراف بالمطالب الإيرانية عندما يتعلق الأمر بشكل الحكومة العراقية أو الامتيازات النفطية في جنوب العراق، لكنها تريد أن تضمن ألا تحاول إيران تجاوز الحدود وتهديد الثروة النفطية في السعودية. لكن هناك مشكلة، فإيران لا تستطيع أن تثق بأن الولايات المتحدة لن تشارك لاحقا في عمل عسكري ضدها، والأميركيون لا يمكنهم الوثوق من أن إيران لن تتحرك باتجاه الثروة النفطية السعودية، مع العلم أن القدرات العسكرية لمثل هذه الخطوة تتجاوز قدرات إيران الآن.

القلاقل في البحرين، وموقف الولايات المتحدة الضعيف في العراق والترويج بأن واشنطن «هي» من تسعى لعقد صفقة مع إيران، تجعل طهران تأمل ولو باتفاق «هدنة» مع السعودية، على أن تعتبره إذا تحقق، خطوة نحو تسوية أوسع تؤدي إلى اعتراف خليجي عربي بإيران كقوة بارزة. وتصريحات المسؤولين الإيرانيين، بـ«أن الولايات المتحدة فشلت في إقامة نظام الأمن المستدام في منطقة الخليج وليس من الممكن أن تحافظ العديد من السفن على وجود دائم في المنطقة»، هدفها زرع الخوف والشكوك لدى دول الخليج العربية بأن الوجود العسكري الأميركي البحري سيتزعزع، لكن، لا تملك إيران الآن القوة العسكرية لتهديد دول مجلس التعاون الخليجي إلى حد إجبارها على التفاوض للتخلي عن الضمانات الأمنية الأميركية مقابل أن تضبط إيران نفسها.

الصورة الإقليمية على المدى الطويل، ليست لصالح إيران. وعلى عكس إيران التي تتخبط اقتصاديا في الداخل، تبدو تركيا البلد الصاعد في المقابل، فلديها القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية القادرة على التأثير على الأحداث في الشرق الأوسط تحت الراية السُنّية، وإن كانت تركيا تحتاج إلى وقت للعودة إلى هذا الدور، لكن ما تقوم به يشير إلى هذا التطلع.

ففي العراق يمكن استشعار النفوذ التركي في المجالات السياسية والتجارية والأمنية والثقافية.

وفي سوريا، وعلى الرغم من مقاومة نظامها حتى الآن، فليس هناك شك في أن ملامح مواجهة أكيدة تكبر بين إيران وتركيا حول مستقبل الدولة السورية. لدى تركيا مصلحة في بناء قوة سُنّية سياسية قابلة للحياة في سوريا يمكنها في نهاية المطاف أن تحل محل العلويين في السلطة، في حين أن المصلحة الإيرانية تقتضي حماية النظام القائم الآن وذلك للحفاظ على موطئ قدم استراتيجي في المشرق العربي.

الإيرانيون في سباق مع الزمن، إذ قد تكون هناك بضع سنوات قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من أن تتحرر من كل ما يعيقها لتعود بقوة جديدة إلى الخليج. في غضون ذلك من المتوقع أن تعود تركيا إلى دورها في أنها الموازن الطبيعي في المنطقة لإيران. وحتى يتحقق كل ذلك، فإن الإيرانيين يعملون على وضع الهياكل والحصول على الاتفاقات وتثبيتها وتفعيلها لتصمد في مواجهة القوى الإقليمية. وقد يكون الخاسر الأكبر في هذه السباقات، النظام السوري القائم، فهو لم يدفع فقط ثمن تحالفه مع النظام الإيراني، بل سيكون ضحية حسابات ذلك النظام الذي في نهاية المطاف يقيّم تحالفاته ويغيّر شكل عداواته للمحافظة على بقائه.