عقد الإدارة اللبنانية

TT

مرة أخرى، لا أخيرة، تكشف الخلافات الحكومية والحزبية على التعيينات والتشكيلات الإدارية في لبنان دور «العقدة» المذهبية في الحؤول دون تقديم الكفاءة على «المحسوبية» في تعيينات الإدارة اللبنانية.. وكأن علة وجود لبنان، أي مراعاة التمايز الطائفي في مجتمعه، أصبحت علة جهازه الإداري بقدر ما هي علة حياته السياسية.

وفي ظل الظروف السائدة حاليا في لبنان والمنطقة - التي لا ينفصل الشأن اللبناني الداخلي عنها - اكتسى المعيار الطائفي للتوظيف بعدا جديدا ناجما عن حالة الارتباط العضوي بين الانتماءات المذهبية لبعض اللبنانيين وولاءات الحزبية؛ سواء كانت لمرجعيات داخلية أم داخلية - خارجية.

قد لا يختلف لبنانيان على صعوبة إلغاء نظام المحاصصة المذهبية، على صعيديه الإداري والسياسي، دفعة واحدة، رغم اتفاق معظم اللبنانيين على التنديد بمساوئه وتفضيلهم لوطن يتساوى فيه الجميع بالواجبات والحقوق.

ولكن بعد أن تعثرت كل محاولات «إصلاح» النظام المعمول به حاليا في لبنان لجعله أكثر إنصافا للجميع وأفضل تمثيلا للطوائف اللبنانية (مثل المشروع الذي سبق أن قدمه رئيس الحكومة الراحل، صائب سلام، لتشكيل مجلس رئاسي تُمثل فيه الطوائف اللبنانية الكبرى.. وغيره من المشاريع التي لم تبصر النور)، وفي ظل تضارب الصلاحيات بين الرئاسات اللبنانية الثلاث التي غالبا ما تنعكس سلبا على إدارة البلاد واستقرارها، وفي أعقاب تصاعد مطالبة الطوائف الأقل عددا من الطوائف الثلاث الرئيسية (السنية والشيعية والمارونية) بتمثيل أكثر مصداقية لحالة التنوع المذهبي في لبنان، وبانتظار أن يصبح المجتمع اللبناني أكثر تقبلا لنظام تمثيل سياسي غير طائفي، بات لزاما تطوير النظام الطوائفي الحالي بحيث يراعي بشكل أفضل تمثيل جميع الطوائف اللبنانية ويزيل شكاواها، وخصوصا شكاوى الطوائف الصغيرة، من نظام تتهمه بالتحول، تدريجيا، إلى نظام «ثلاثي» على حساب الطوائف الصغرى.

من هذا المنطلق وعلى قاعدة مرحلية فحسب، قد يكون من الأجدى إلغاء التوزيع الطائفي لكل وظائف الدولة، بما فيها وظائف الفئة الأولى - مثل قيادة الجيش وقيادة قوى الأمن الداخلي وحاكمية مصرف لبنان ورئاسة شركة «طيران الشرق الأوسط» - على أن تعتمد الكفاءة والتخصص، حصرا، معيارا لإشغال هذه المناصب.. مع الحرص على عدم حرمان أي طائفة كانت من شغل هذه المناصب في حال توفرت في أحد أبنائها الكفاءة المطلوبة.

وقد تكون الخطوة المتممة لهذا الإصلاح المرحلي انتخاب مجلس النواب على قاعدة غير طائفية على أن يعتمد نظاما انتخابيا يستند إما إلى قاعدة التمثيل النسبي للأحزاب أو إلى أساس الدائرة الفردية، تأمينا لتنويع التمثيل من جهة، وتضييق القاعدة الانتخابية من جهة أخرى، بحيث يصبح الناخب أكثر التصاقا بممثله في المجلس النيابي.

ولأن القاعدة الطائفية للنظام اللبناني لا يمكن أن تلغى بشطحة قلم، فلا بأس من حصر الوجه الطائفي لهذا النظام بمجلس الشيوخ الذي نص «اتفاق الطائف» على تشكيله، بحيث يصبح الإطار الحصري لضمان التمثيل المتوازن لأبناء جميع الطوائف اللبنانية، بصرف النظر عن حجمها الديموغرافي، وعلى أن تعزز صلاحياته الدستورية بحيث يصبح المرجعية الشرعية الأعلى في البلاد (على غرار مجلس اللوردات البريطاني).

وفي غضون ذلك قد يساعد على تهيئة اللبنانيين نفسيا لمرحلة ما بعد النظام الطائفي اعتماد نظام مداورة، مؤقت، بين الرئاسات اللبنانية الثلاث بحيث تتناوب كل طائفة من الطوائف الثلاث الكبرى على المناصب الرئاسية الأولى مرة كل أربع سنوات (غير قابلة للتجديد) على أن ينشأ منصب نائب لكل من الرئاسات الثلاث يراعى في توليها التوزيع والتنويع الطائفي بحيث يكون نائب الرئيس، باستمرار، من طائفة مختلفة عن طائفة الرئيس.

لو شاء المسؤولون اللبنانيون إقامة دولة في لبنان لما أعيتهم الحيلة ولا السبل الدستورية.. ولكن هل يعقل الطلب من المستفيدين من الأمر الواقع في لبنان تقديم مصلحة وطن على مصلحتهم الشخصية؟