التغيير العربي وتفاعلات المحيط

TT

يأتي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة خلال أيام. وخلال الشهور الماضية زارت القاهرة وفود تركية وإيرانية عديدة، تخطب ود الثورة الجديدة، وتبحث عن مصلحتها في العهد الجديد. لكن الإيراني في القاهرة في وضع أفضل من التركي بكل حال، فهو من ناحية يفتتح ساحة كان هو خارجها تماما خلال عهد الرئيس مبارك، بل كانت الدولتان في مواقع العداء والمواجهة. وللإيراني أنصار ومؤيدون بين الإسلاميين المصريين («الإخوان المسلمون» على الخصوص)، كما أن حماس في غزة صارت من أبنائه في السنوات العشر الأخيرة، وهو أصل دولتها في غزة. ومع ذلك فإن التركي أفضل حظا من الإيراني، في مصر وغيرها. فهو أيضا طالب مبارك بالتنحي، وحيّا الثورة المصرية، ويملك علاقات حسنة مع «الإخوان المسلمين»، وأخرى حسنة مع حماس والشعب الفلسطيني بشكل عام. إنما الأهم من هذا وذاك أن التركي يبشر بمستقبل واعد في سياق المنطقة، والسياق العالمي، وأن الإيراني على العكس من ذلك، مضطر للوقوف في وجه الحالة الثورية العربية الجديدة كلها، وإن تظاهر بالانتصار لها خارج سوريا!

سيتحدث أردوغان إلى المسؤولين المصريين عن ثلاث مسائل: فلسطين وسوريا والتعاون الاقتصادي. والغالب أن المصريين يسرّهم الموضوع الثالث، وهم شديدو الحذر من الموضوع الأول، ولا يملكون غير الفضول إزاء الموضوع الثاني (السوري)! فقد أجرى الأتراك جولتين من المحادثات بشأن سوريا مع المصريين والسعوديين، وما توصلوا إلى توافق، لاختلاف الرؤى والتقديرات. وهنا تختلف الرواية العربية عن الرواية التركية.. الأتراك يقولون إن العرب غير مستعدين لرفع السقف قليلا، والسير في مبادرة مشتركة للتغيير والتحول السلمي في سوريا.. أما المصريون والسعوديون فيقولون إن الأتراك (أو أوغلو) يدركون الفرصة السانحة، لكنهم لا يملكون خطة، كما أنهم في الحقيقة لا يريدون إشراك أحد في «الغنائم» المتوقعة والتي ستسقط في أحضانهم بكثرة الحركة، وليس بزيادة الفعالية وتحديد الأهداف! والواقع أن تركيا ربّت رصيدا لا يستهان به في الداخل السوري مع النظام، والآن مع الثوار. فقد أجرت مئات الاتفاقيات «الاستراتيجية» مع النظام السوري خلال الأعوام الماضية، وبدا أنها «سمسارة» النظام في العلاقة مع الغرب ومع إسرائيل. أما بعد الثورة فقد طالبت النظام عشرات المرات سرا وعلنا بالإسراع في التغيير الجذري، وآوت عشرات ألوف السوريين الهاربين من قمع نظامهم، كما احتضنت وتحتضن مؤتمرات المعارضة في الخارج وندواتها. ولها منذ سنوات علاقات وثيقة بـ«الإخوان المسلمين» السوريين.

وهكذا فمن الناحية العامة يوجد لدى الأتراك رصيد سواء بقي النظام السوري الحالي أو تغير أو ذهب. ولذا فالذي أراه أنه ليس دقيقا القول إن الأتراك لا يملكون خطة، بل إن خطتهم هي أن يتركوا الأمور تنضج لدى الطرفين المتصارعين في سوريا، ولدى الغرب والأميركيين، وفي النهاية لن يستطيع أحد تجاوزهم سواء أكان المطلوب التدخل أو عدمه. وهم يستندون في هذا الحذر إلى تجاربهم السلبية مع العراق قبل سنوات، ومع ليبيا الآن. فقد بنوا سمعة جيدة لأنفسهم بعدم التعاون مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، في حين تعاونت إيران مع ذلك الغزو بأساليب شتى. وقد سلكوا مع العراق بعد الغزو أسلوبا حكيما بالانفتاح على كل الأطراف، وبفتح حدودهم للتجارة الطليقة حتى مع الأكراد الذين كانوا يخاصمونهم، وما زالوا يغضون الطرف عن وجود حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل. وتعاونوا مع إيران بشأن العراق كما تريد إيران وتشتهي. ثم إنهم الآن في «حيص بيص» لأنهم لا يمونون على أي طرف عراقي (حتى التركمان) مونة كاملة. أما الإيرانيون فيخترقون العراق من أقصاه إلى أقصاه من دون أن يتبين الهدف، الذي من الراجح أن يكون بقاء البلاد مهلهلة بحيث لا تشكل خصما ولا مشكلة من جديد للدولة الإيرانية. أما في ليبيا فقد وقف الأتراك في بداية التمرد على القذافي مع النظام وطالبوه بالإصلاح، وقالوا إنهم لا يستطيعون الوقوف ضده لأن عندهم استثمارات بـ15 مليار دولار. وتشاجروا مع الفرنسيين شجارا عنيفا مع بدء التدخل الدولي، لكنهم قبل ثلاثة أسابيع أقفلوا سفارتهم في طرابلس، وأقاموا علاقات (من دون ثمن) مع المجلس الوطني الانتقالي!

أما المسألة الثانية في المحادثات بين أردوغان والمصريين فهي مسألة فلسطين أو بالأحرى غزة. فقد كان أردوغان يريد زيارة غزة من مدخل مصري لإغاظة إسرائيل، وإظهار الدعم لغزة المحاصرة. والمصريون وهم في مرحلة انتقالية حافلة بالإحراجات، لا يريدون إثارة إسرائيل أو الولايات المتحدة، لكنهم من جهة أخرى يعرفون عواطف الشعب المصري وميوله وسخطه على العدوان الإسرائيلي. بيد أن أردوغان يستطيع أن يكون إيجابيا أكثر، لو اجتمع إلى الأمين العام للجامعة العربية، وتشاور معه (بحضور أوغلو) بشأن الدولة الفلسطينية التي يريد العرب (مع السلطة الفلسطينية) إقرارها في الأمم المتحدة في أواخر سبتمبر (أيلول) القادم، رغم معارضة الولايات المتحدة لذلك. فتركيا عضو مؤثر في المؤتمر الإسلامي، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي تركي. كما أن تركيا مؤثرة في دول آسيا الوسطى والقوقاز، ولها علاقات وثيقة ببعض دول أميركا اللاتينية. ولو أن العرب كانوا حاضرين الآن لأمكن لهم الحديث أيضا بشأن العراق مع تركيا، وبشأن الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، هذا فضلا عن الشأنين السوري والفلسطيني.

قال لي مسؤول عربي إن تركيا استثمرت في سوريا في عشر سنوات ما لم تستثمره إيران في عشرين سنة. وبقدر أهمية الاستثمار وعلاقته بالمصالح الوطنية التركية في الإدراك التركي، يكون تقييم النتائج والحكم عليها. والذي يحصل الآن أن تركيا بدأت بسياسة أحمد داود أوغلو: صفر مشاكل.. بإقامة علاقات مع سائر دول المنطقة تتسم بالتوازن والتودد والبشاشة أحيانا، حتى لدى الأطراف التي عاداها العسكريون الأتراك من قبل. وحققت هذه السياسة انفراجات أولية واعدة حتى مع القبارصة اليونان والأرمن. ثم وعلى طريقة الشاعر حافظ الشيرازي: كان الحب جميلا ثم بدأت المشاكل.. غيمت الأجواء ومع الجميع تقريبا، حتى إيران. وقد بلغ انزعاج الإيرانيين من سياسات أردوغان في سوريا والمنطقة إلى حد أن قالوا «إذا خُيرنا بين علاقاتنا مع تركيا أو سوريا، فلا شك أننا سوف نختار سوريا!»، وهذا مفهوم وغير مفهوم في الوقت نفسه.. مفهوم بسبب ضرورة النظام السوري لإيران الآن، وهي في مرحلة المواجهة للحيلولة دون قطع الامتدادات وبؤر النفوذ والتوتير التي أوجدتها بالمنطقة (ضد الولايات المتحدة وإسرائيل طبعا!)، كما أن الطريق السوري مفيد لها في التواصل مع حزب الله. لكن هذا الأمر غير مفهوم من جهة أن تركيا شريك استراتيجي لإيران في الاستيراد والتصدير، وفي العلاقة مع العراق والأكراد وسوريا، كما في العلاقة مع آسيا الوسطى والقوقاز. وتركيا ونظامها باقيان وإن تغيرت الحكومات، وكذلك النظام السوري. ولذا - ورغم تزايد التنافس إلى حدود انفجار الصراع - لا يمكن فهم الملاحظة الإيرانية إلا بالنرفزة واضطراب التوجهات بسبب التوتر الداخلي الإيراني، والتوتر في مناطق النفوذ. فإيران التي اعتادت في السنوات العشرين الأخيرة على «الانتصارات» الإعلامية من طريق التهديد بقوتها الجبارة، تدرك الآن أن أحدا لا يخافها كما لا يخاف من تهديداتها. إنما رغم ذلك عند تركيا مشكلات في سياساتها الخارجية بالمنطقة، وقد اعتادت هي وإيران على الجمود العربي، فكيف ستعتادان على الاضطراب العربي؟!