المعارضة السورية وحركات الاحتجاج الشعبي

TT

لعل أهم ما يميز الثورات العربية أنها جاءت مفاجئة وعفوية، وتجاوزت كل الحسابات والتوقعات، أشبه باندفاعات أو حركات تلقائية لم يخطط لها مسبقا أو تحضر إراديا، وبدت كأنها نهضت بمعزل عن الأيديولوجيات والبرامج الحزبية، ومن دون قوى سياسية عريقة تقودها، ومن غير شخصيات تاريخية أو كاريزمية تتصدر صفوفها.

وإذا كان أمرا مفهوما أن تتدارك قوى المعارضة هذه النقيصة وتسارع لاستحضار دور سياسي نشط يتفاعل مع مطالب الناس وهمومهم، وهو ما حصل بأشكال متنوعة في تونس ومصر واليمن وغيرها، فإن ما ليس مفهوما أن تستمر هذه المفارقة في الحالة السورية وبعد أكثر من أربعة أشهر من بدء الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية وفداحة ما قدم من دماء وتضحيات! والحقيقة أنه ليس أمرا مألوفا في التاريخ السوري، الذي يشهد له بأنه تاريخ الأحزاب السياسية، تلك المسافة التي رسمها حراك الناس مع قوى المعارضة التقليدية، وكيف بدت هذه الأخيرة كما لو أنها تركض لاهثة لتلحق بنبض الشارع، حتى بات من الصعوبة بمكان أن يتبجح طرف سياسي ويدعي أنه صاحب هذه التحركات الشعبية وراعي ما يحصل من تطورات!

ولا يغير من هذه النتيجة بل يؤكدها تكاثر اللقاءات التشاورية والحوارات والمؤتمرات التي عقدتها قوى من المعارضة السورية، إن داخل البلاد أو خارجها، ما دامت لم تنجح في توحيد صفوفها وبلورة كتلة موحدة، قادرة على التفاعل مع المتظاهرين المطالبين بالحرية ومدهم بأسباب الدعم وسد فراغ كبير بلعب دور سياسي هم في أمس الحاجة إليه.

هل يرجع السبب إلى خصوصية الوضع السوري التي لا تضاهيها خصوصية أي وضع عربي آخر؟! إن لجهة شدة إحكام السيطرة على المجتمع وما خلفته عقود طويلة من سيادة منطق القوة والوصاية والاستئثار وتغييب الحريات الأساسية في تجفيف الحقل السياسي وإقصاء أهله، أم يصح التذكير هنا بما ذهب إليه البعض، من تحميل المناخ الأمني الضاغط مسؤولية هذا الإخفاق اليوم، في إشارة إلى جهود قمعية استثنائية توظف لمحاصرة الحراك الشعبي وعزله عن محيطه السياسي، ومثلا إلى شدة الردع والتنكيل وحتى استخدام القوة بلا حساب لمنع المحتجين من التجمع والاعتصام الدائم في ساحة عامة، كي لا تتحول إلى مكان لعقد اللقاءات والحوارات والتفاعل بين المعارضة والناس، كما كان حال ساحة التحرير في مصر أو ساحة التغيير في اليمن!. أم لعل السبب يعود إلى أحوال المعارضة ذاتها وما تركته المعاناة المريرة في سراديب العمل السري أو في غياهب السجون من آثار سلبية على صحة أحوالها، لتبدو بطيئة في قراءة المتغيرات الحاصلة والتكيف معها، وعاجزة في غالبيتها عن انتزاع زمام المبادرة والتحول من حالة نخبوية إلى حالة جماهيرية.

ما سبق لم يحد فقط من فاعلية المعارضة السورية ويربك دورها، وإنما خلق ما يشبه الهوة بين الناس والسياسة يصعب ردمها بسرعة أو على الأقل التخفيف منها، وأشاع أيضا حالة من عدم الاطمئنان حول مواقف أحزابها ومدى جديتها في قيادة عملية التغيير الديمقراطي، ولنقل حالة من الشك بأن بعضها قد يركب الموجة ويبيع ويشتري، على حساب التضحيات التي يقدمها المحتجون، ليجني أرباحا سياسية خاصة! وإذا أضفنا ميول التحركات الشعبية بكتلتها الشبابية الكبيرة نحو التحرر من أي رقابة أو إكراه حزبي، أو من أي إلزام بمعتقدات وبرامج محددة أو بقرارات موجبة التنفيذ دون نقد أو اعتراض، يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي تفسر استمرار حالة الجفاء والافتراق بين أهم قوى المعارضة السورية وبين الفعاليات التنظيمية التي أفرزها الحراك الشعبي وظهرت على السطح بأسماء متنوعة، كلجان التنسيق المحلية، واتحاد التنسيقيات وائتلاف شباب الثورة أو التغيير وغيرها، والتي لا تزال تقود الاحتجاجات والمظاهرات على الأرض. والنتيجة، فإن ضعف القوى السياسية، وأكثرها عريق وتاريخي، وعجزها عن تحريك الشارع وقيادته، أفسح المجال لظهور جماعات شبابية، تقدمت الصفوف وأمسكت زمام المبادرة، ونالت ثقة الناس بسلوكها اليومي المثابر واستعدادها العالي للتضحية. وبنجاحها في الالتفاف على آليات الرقابة الأمنية وأساليب التعبئة والصراع التقليدية.

هي مجموعات حديثة التكوين ولدت وترعرعت في ظل الشروط الاستثنائية، لا تنتمي إلى أي حزب أو تجمع سياسي، وليس عندها ما تخسره مع انسداد الأفق أمامها وتعاظم شعورها بالظلم وغياب العدالة، فنأت بنفسها عن الأيديولوجيات الكبرى وشعارات الهوية العريضة، واستعانت بما راكمته تجارب شعوب عاشت ظروفا مشابهة من خبرات في خلق أشكال متنوعة لرفض الواقع القائم والدفاع عن مصالحها وحقوقها، وخاصة استثمار فضاء المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، لخلق مساحة من التفاعل فيما بينها ومع الآخرين، حول همومها المشتركة وسبل حل القضايا التي تشغلها وتتحكم بمستقبلها، وربما لن يتأخر الوقت كثيرا حتى نسمع أن هذه المجموعات أصبحت الرقم الفاعل في تحديات الراهن السوري ومستقبل تطوره الديمقراطي.

إن استمرار حركة الاحتجاجات الشعبية واتساع رقعتها يزيد، كل يوم، من حجم الضغوط على المعارضة السورية كي تتجاوز حساباتها الضيقة وخلافاتها وتسارع لتوحيد صفوفها وتنسيق جهودها لمتابعة ما يحدث بأكبر قدر من المسؤولية، وأساسا لتطوير لغة مشتركة للتواصل والتفاعل مع الحراك الشعبي ودعم مطالبه المحقة، فلم يعد ثمة متسع من الوقت لمزيد من الانتظار، وما يحصل من متغيرات نوعية في المجتمع السوري سيكون شديد التأثير على أحزاب المعارضة التقليدية ويرسم أمامها أفقا جديدا، ولنقل يضعها أمام مفترق وعلى محك اختيار وفرز بين قوى وأحزاب يمكن أن تخوض غمار «أزمة نمو» تظهر خلالها العزم على الوقوف نقديا من تصوراتها الإيديولوجية وبناها التنظيمية العتيقة وعلى تقديم التضحيات من أجل إنهاء مرحلة الركود والتخلص من العوائق التي تعيقها عن ممارسة دورها الحيوي وبين من ستشهد مسار «أزمة انحطاط وتفكك» ربما تنتهي بها إلى الموت الرحيم!

* كاتب سوري معارض