أصعب: الفكرة الأولى!

TT

عندما سئل العالم اليوغوسلافي الأصل بوبين: وأنت كيف فكرت في تطوير التلفزيون والراديو؟

روى أنه عاش في منطقة الصرب.. وأنه كان يرعى الغنم.. وأنه لاحظ أن كل واحد من رعاة الغنم قد تسلح بسكين كبير له يد من خشب.. وأن الراعي إذا أراد أن يتحدث إلى راع آخر، فإنه يغمد السكين في الأرض ويظل يدق بقطعة من الحجر على المقبض الخشبي.. وفي هذه اللحظة يكون راع آخر، وعلى مسافة بعيدة، فعل نفس الشيء.. ويتلقى هذه الطرقات التي انتقلت في الأرض إلى السكين الآخر.. وهكذا يتخاطب الرعاة في الجبال.. ويقول بوبين: من هنا عرفت كيف يتصل الصوت وكيف أن «الملف الكهربي» من الممكن أن يضخم الصوت.. وفهمت معنى الدائرة الكهربية المغلقة!

ويقول بوبين: لقد كان شعاري كواحد من العلماء هو أن أضع أذني على الأرض وعيني في السماء.. أسمع وأفكر وأتخيل.. أتذوق وأفكر وأتخيل.. فالذي ليس على الأرض أراه فوق في السماء!

ويقول: أصعب شيء هو الفكرة الأولى.. الفكرة الأولى الواضحة وبعد ذلك يمكن نقلها عبر الكلمات والرموز والإشارات إلى الآخرين!

ولو لم يسألني طفل صغير: قل لي يا أونكل ما هي السماء؟ ما أغرقتني هذه الحيرة كلها.. وما تشككت في قدرتي على أن أقول شيئا أو حتى أشير إلى أي شيء آخر. ولكن هذا الطفل الصغير هو الذي انتشلني عندما سألني ورد علي السؤال فقال: طيب يا أونكل من هو الله؟ أنا أقول لك.. إنه هو الذي خلق السماء!

ولو كان يمكن ضغط السماء في جملة مفيدة أو في برشامة.. أو في حقنة لسارعت فأعطيتها لهذا الطفل أو لأي إنسان آخر.. ولكن المشكلة قديمة: كيف يدخل الجمل في عين الإبرة؟ والجواب: يدخل الجمل إذا سخطنا الجمل فأصبح نملة.. أو إذا فتحنا عين الإبرة لتسع الجمل!

وليس هذا ممكنا في تعريف السماء أو الله وخلق الله للسماء في عقل طفل صغير.. ولا عذر للكاتب أو المفكر أو الفنان إذا لم يستطع ذلك.. أليست هذه صناعة؟ طبعا صناعة.. ولكن أحدا لا يسأل: ولكن أين حدود قدرته؟!

ولا تزال عبارة الأديب الفرنسي موباسان صادقة - مع الأسف - إنه يقول: إن القارئ يقول للكاتب دائما: أرحني.. أسعدني.. هزني.. أنمني.. أيقظني.. اجعلني أحلم.. أضحكني.. أبكني.. جفف دمعي ودمي وعرقي.. افعل شيئا.. إنك قادر على كل شيء!!

ولكن الكاتب والفنان والسياسي وصاحب الرسالة الدينية ليس قادرا إلا على أشياء صغيرة.. فهو يبكي وهو يحلم بأن يحرك الجبال وأن يجعلها كالجمال تدخل في عين الإبرة!