الكويت والعراق الشيطان في التفاصيل

TT

ربما العراق من الدول القلائل في العالم التي رسمت حدودها في أكثر من جانب من هيئة دولية كبرى، في الشمال تم رسم حدود العراق من خلال عصبة الأمم في عام 1926، بسبب الخلاف الطويل مع الجارة تركيا، وهي حدود استمر الجدل حولها ثم هدأ ولكنه يظهر على السطح في فترة الأزمات. ثم رسمت الحدود مع الكويت في الجنوب، من خلال الأمم المتحدة عام 1991 بموجب قرار مجلس الأمن رقم 833. وهذا لا يعني أن الجوار العراقي السعودي، أو الأردني أو حتى السوري، كان في مأمن من الأخذ والرد. إلا أن الحدود مع الكويت هي الصداع المزمن، وأسبابه السياسية لا تخفى، وهو ما تسبب في احتقان طويل وفي كثير من الألم الذي ما إن يهدأ حتى يثور. وقد أثير في الأسابيع القليلة الماضية من بعض الأطراف العراقية موضوع ميناء مبارك الكبير، كجزء من إحياء التوتر، وتدخلت قوى سياسية شعبية، أصلا تريد قضية تطرحها لتبدو شعبية، سواء في العراق أو في الكويت، حتى اختفت الحقائق، وثار في الأعين الكثير من الغبار حول الموضوع برمته، من أجل الاستفادة القصوى من التسييس. على الرغم من معرفة الجانب الرسمي العراقي بالحقائق كاملة، وأخيرا جاء الطلب بوقف المشروع وهو على الأراضي الكويتية ذات السيادة.

والتفاصيل أن المدخل البحري الجنوبي للعراق هو من الخليج بشكل طبيعي ومن خلال شط العرب، وكان الخلاف تاريخيا بين إيران والعراق حول ذلك، قد قاد إلى مماحكات، ومن ثم حروب بين العراق وإيران، في عهد الملكية وفي عهد الجمهورية أيضا، انتهى كما يعرف كثيرون، بحرب ضروس، استمرت ثماني سنوات، فقد فيها الجانبان العراقي والإيراني مئات الآلاف من القتلى، وخسر الجانبان أيضا من الموارد الشيء العظيم.

أثناء تلك الحرب شقت أو بالأحرى عُمقت قناة بحرية في المجرى البحري الأضيق الفاصل بين جزيرة بوبيان الكويتية، وبين الجانب الغربي من الحدود العراقية، صعودا من خور عبد الله، من أجل أن يكون هناك ممر بحري آمن لجنوب العراق بعيدا عن مناطق التوتر العسكري، وطور في نهايته ميناء عراقي بديلا لميناء البصرة الذي كان في دائرة الاستهداف الإيراني العسكري وبسهولة لقربه من الحدود. ذلك الميناء هو ميناء الزبير. بعد انحسار الاحتلال العراقي للكويت في عام 1991 قررت الأمم المتحدة أن تُرسم الحدود البحرية، واستباقا لأي نزاع قادم، وافقت الكويت أن يكون الممر البحري إلى جنوب العراق في داخل حدودها البحرية، لأن المجرى الأعمق هناك، واتقاء لأي نزاع في المستقبل وهو ما سجل بتفاصيله في قرار مجلس الأمن 833 ويرسم ذلك القرار بوضوح ما يترتب على كل طرف من الأطراف من مهام ومسؤوليات.

ميناء مبارك الكبير يقع على أرض كويتية هي جزيرة بوبيان، كما أنه لا يخل بأي اتفاق دولي، وأن العراق قد طور بمساعدة أميركية، ميناء ملاصقا للحدود الشمالية الكويتية هو ميناء أم قصر. على كل من يجهد نفسه ولو قليلا وينظر إلى الخريطة، حتى الخرائط العراقية الرسمية، سوف يرى أن ميناء مبارك الكبير لا يُجير على الحدود العراقية ولا حتى على القناة البحرية التي هي أصلا واقعة في الحدود البحرية الدولية للكويت، وقد وافقت الكويت بيانا لحسن النية، أن تستقبل وفدا فنيا عراقيا للاطلاع على سلامة الملاحة البحرية وأن الميناء لا يشكل عائقا لها. فوق هذا فإن العراق لديه خطط لإنشاء أكبر ميناء في شمال الخليج، هو ميناء الفاو الموازي تقريبا لميناء مبارك الكبير، وهو في مطلق الصلاحية أن يفعل ذلك، كما الكويتيين على أرضهم. وخطط ميناء الفاو الكبير متاحة لمن يتابع على الإنترنت.

أين المشكلة إذن؟

هي في عدد من المُدخلات، منها قرب خروج القوات الأميركية بعددها الكبير من العراق، وما يمكن أن يتمخض عن هذا الحدث في العراق من مشاحنات سياسية عميقة كان مسيطرا عليها بسبب وجود الوسيط الأميركي، تلك قد تأخذنا إلى مكان ما، لا أحد يريده، وهو حرب داخلية سياسية وتوتر اجتماعي عالي المستوى، تريد كل فئة عراقية أن تبدو لجمهورها أنها الأكثر دفاعا عن حقوقه، وبما أن الصمت يخيم على استمرار تجاهل المدخل التاريخي البحري للعراق، وأعني به شط العرب، لأن إيران بما تملكه من نفوذ مباشر وغير مباشر في العراق اليوم، ومن قوى على الأرض، لا تحبذ الاقتراب من ذلك الملف، فلا بد إذن من نقل الأمر إلى الأخ الأصغر، الكويت صرفا للنظر.

ولو لم يكن الأمر ميناء مبارك، لكان ميناء أم قصر أو كان الحدود البرية أو ربما التعويضات، أي أن هناك ملفات يمكن فتحها وبيعها على الجمهور العراقي البعيد عن الحقائق، والنفخ في القضايا القديمة لإشغاله عن مشكلاته الداخلية، تكون الكويت عنوانها. الأمر الثاني أن القوى السياسية المتنازعة في العراق سوف تجد نفسها أمام خيارات صعبة، منها خيار العلاقة مع محيطها العربي أو العلاقة مع جيرانها في الغرب (إيران) أو الشمال (تركيا)، وكلما تأزم الموقف مع العرب تحلل بعض الساسة لتبرير سياسات مع الآخرين.

كان دأب السياسة العراقية - بصرف النظر عن شكل الحكم في بغداد - فتح ملفين أساسيين، خاصة لما تتأزم الأمور الداخلية، إما إيران، وقد تطور الأمر لغلق هذا الملف نهائيا أو على الأقل في الوقت المنظور، ولم يعد ذلك ممكنا اليوم، أو الكويت وهو الأسهل في التناول والأقل كلفة كما يعتقد بعض الساسة في بغداد.

لا يريد عاقل أن يصعد الموضوع لأكثر مما يحتمل، والفرق اليوم أن ليست كل القوى السياسية العراقية لها نفس الموقف في فتح الملفات والتصعيد السلبي، فهناك قوى تعلمت من الماضي القريب، وتريد أن تتوجه بالعراق، بعد طول معاناة، إلى السلم الأهلي والسلم في الجوار والتنمية. ولكن على الضفتين العراقية والكويتية، هناك قوى سياسية تتعايش على إثارة الموضوعات نفسها وبنفس الطريقة، خاصة في الجانب العراقي. الأخيرة هذه تسمى أعمالها بالمزايدة السياسية، وهي على الأرض، ومع الأسف، تجد من يستمع لها ويساند حججها وربما ترفدها أجندة خفية.

لا أحد يستطيع أن يقرر الآن ما سوف يرسو عليه فتح الملفات تلك، إلا أن الحقائق على الأرض تقول إن هناك سيادة للدول على أراضيها، خاصة إن كانت ممارسة تلك السيادة لا تتعارض مع القوانين الدولية السارية، بالتالي فإن حاجة الكويت في ظل هذا التزايد السكاني أن تنظر إلى تنمية ثلث أرضها تقريبا وهي جزيرة بوبيان التي يمكن أن تحوي عددا من المستوطنات البشرية تخفف العبء على الضغط المشاهد في ضيق مساحة الأرض الصالحة للسكن لأعداد متزايدة من المواطنين. تنمية تلك المنطقة سوف تهيئ للمواطنين الكويتيين فرص عمل ومساحة للتوسع السكاني الطبيعي. في الحقيقة إن رفعنا عامل التسييس، فإن ميناء مبارك الكبير، كما هو ميناء الفاو العراقي، سيكون خيرا كله لأبناء الوطنين العراقي والكويتي.

تلك هي التفاصيل عرضتها من أجل أهل العقل والحكمة، وهي مستندة إلى حقائق موضوعية يقر بها كل من ينظر إلى الموضوع برؤية، وما موقف الكويت من الترحيب بلجان فنية للاطلاع على التفاصيل إلا محاولة جادة لنزع الفتيل واللجوء إلى الحكمة، حيث لم يترك الطيش إلا مدنًا مهجورة وجثثا مغدورة.

آخر الكلام:

«تأسست ثقافة الفتنة، عبر أحقاد وأساطير، يُغذيها الجهل ويُشعلها التوظيف السياسي» اللهم جنبنا الفتن.