سوريا.. وانفصام العرب الأخلاقي

TT

كنت في جلسة مع إعلامي غربي يناقش آخرين في تطورات الوضع الإسرائيلي والفلسطيني ومستقبل عملية السلام والواقع الاستيطاني وحصار غزة، وغيرها من المسائل المحزنة للقضية الفلسطينية. وقال أحد الجالسين من العرب المتحمسين وهو يصيح في وجه الصحافي الغربي «إنكم تمكنون إسرائيل من قتل الفلسطينيين بدم بارد بصمتكم على كل جرائمهم وعدم اعتراضكم عليها ولا حتى شجبكم أو تنديدكم بما يحدث». وابتسم الصحافي الغربي ابتسامة هادئة وأجاب الرجل بنبرة هادئة «أعتقد أنك الآن ولوهلة ظننت أنك تحدثني عن موقف العرب والمسلمين مما يحدث في سوريا، وموقف الحكومات مقابل مجازر النظام السوري بحق أبنائه وشعبه.. لماذا تعتقدون أن دم الفلسطيني يجب أن يكون أغلى من دم السوري مثلا.. أوليس الاثنان يبحثان عن الشيء نفسه من كرامة وحرية؟ أنتم تتهمون الغرب بازدواجية المواقف والكيل بمكيالين وتقومون بعمل الشيء نفسه، ولذلك تفقد قضيتكم القيمة والمصداقية والمكانة والجدارة المستحقة لأنكم لا تطبقون على أنفسكم ما تطالبون به الغير. النظام السوري قتل حتى الآن 145 طفلا دون الرابعة عشرة من العمر من دون أن تصدر كلمة احتجاج واحدة من أي منظمة أو حكومة عربية أو إسلامية، بينما حين قتلت إسرائيل الطفل الفلسطيني محمد الدرة نزلت المظاهرات في ميادين العواصم العربية، وعقدت قمة عربية طارئة، وجمعت ملايين الدولارات من الناس لصالح القضية الفلسطينية وقتها.. ألا تعتقدون حقا أن لديكم مشكلة عويصة في المصداقية وأن الكيل بمكيالين عندكم مسألة أساسية؟ وما يذهلني أكثر هو أن النظام السوري له سوابق كبيرة في حقكم ومع ذلك تسكتون عليه، فقد سبق له أن أباد 45 ألف مواطن في مدينة حماه، وأسهم بشكل مباشر في إبادة الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين على الأراضي اللبنانية، وهو رأس الحربة لمشروع تصدير الثورة لنظام إيران الذي اشتكى منه المغرب والأردن واليمن والسعودية والبحرين والسودان ولبنان والعراق والكويت والإمارات والفلسطينيون.. كل هذه الأسباب وغيرها ومع ذلك تستمرون في الصمت على جرائمه بحق شعبه، وتطلبون (فقط) من الغرب أن يتصدى لجرائم إسرائيل.. هل بعد ذلك كله تعتقدون أن لحجتكم مكانا أو منطقا؟».

سكت الكل عن الحديث، وقد كان كلام الرجل فاضحا وكاشفا فلا يمكن الدفاع عما قاله ولا تبريره ولا حتى محاولة تخفيفه بشكل أو بآخر. الحقيقة الواضحة أن العرب يقبلون على أنفسهم من أنفسهم (بشكل فاضح) ما لا يقبلونه من الآخرين على أنفسهم، وهذا طبعا سيكون دوما مصدر ضعف هائلا لقضاياهم، ليس أمام الغير فحسب ولكن أمام أنفسهم أولا.

نصرة الشعوب المسحوقة المراق دمها من قبل أنظمة تتعامل معها بلغة الإجرام والسحق وبأسلوب العصابات الخارجة عن القانون التي لا تعرف سوى أسلوب التصفية، هي خيار ديني وشرعي وأخلاقي أولا وأخيرا، وإلى أن يحصل الوعي الجماعي المتكامل ولا يكون هذا الانفصام الأخلاقي بين الشكوى والخطاب الاعتراضي الذي نوجهه للغرب وبين ما نمارسه بين بعضنا بعضا سوف تستمر الفضيحة الأخلاقية هذه، وما الجريمة التي يمارسها العرب والمسلمون بحق دماء السوريين إلا فصل فاضح في ذلك.-