الثورة في مصر والبحث عن كبير

TT

يقول المثل الشعبي «اللي مالوش كبير.. يشتري له كبير»، غير أن شراء الكبار أمر مستحيل لأنه لا توجد أسواق أو متاجر تعرضهم للبيع والشراء، وبذلك يكون المعنى المباشر للمثل الشعبي والواضح أيضا هو حتمية وجود القيادات في التجمعات البشرية، والبديل الوحيد لذلك هو أن يخيب مسعاها. وفي المصطلح الشعبي نسمى الشخص المنفلت الذي لا يمكن رصد ردود أفعاله بما يجعله خطرا على الآخرين، بأنه «مالوش كبير». هكذا نفهم أن الكبير هو رمانة الميزان في السلوك البشري، فلا بد دائما من وسيلة لاستعادة التوازن في صراعات البشر. ومأساة الثورة في مصر أنها ما زالت تبحث حتى الآن عن كبير أو عن كبراء لها، بتصور أو بوهم أن الشعار (أو اللافتة) يصلح بديلا عن وجود الكبير، ويكفي أن أكون قادما من ميدان التحرير لكي تعترف بصحة وربما قداسة ما أقول أو أفعل. وفي غياب الكبير يكون من السهل على ماكينة خداع الذات أن تدور وأن تهرس كل من يواجهها أو يقف في طريقها، فيقال عندها إن أعظم ما في الثورة هو أنه لا قائد محددا لها، كما يقال إن شباب التحرير يتمتعون بدرجة عليا من إنكار الذات تمنعهم من قيادة حركاتهم بشكل واضح للناس. والواقع أن المقولات من هذا النوع هي من حيل العقل لمداراة الحقيقة والتستر عليها، ففي أحيان كثيرة أنت تنكر ذاتك خوفا من طغيان ذات أخرى أو ذوات أخرى عليها.. باختصار أنت تخشى المسؤولية.

في الأسبوع الماضي، سارت مسيرة من ميدان التحرير في طريقها إلى وزارة الدفاع الموجودة في بداية حي مصر الجديدة، وكان لا بد لها من أن تخترق ميدان العباسية الشهير، وهناك تصدت لها جماهير غفيرة من أهل الحي، أو من أطراف أخرى من الصعب تحديد هويتها، ودارت بين الجميع معركة طاحنة بالحجارة وزجاجات المولوتوف والأسلحة البيضاء. لم يسقط قتلى، غير أن المصابين كانوا بالمئات، وانتهى الأمر بانسحاب المسيرة عائدة إلى ميدان التحرير مرة أخرى.

هناك خطأ في صياغة الفقرة السابقة سأناقشه على الفور، وهو استخدام كلمة «مسيرة»، وهو ما يوحى بأن جماعة من البشر سارت في اتجاه ما بغير موجب للإحساس بالخطر منهم خاصة وهم يصيحون «سلمية.. سلمية»، فلماذا شعرت القيادة العسكرية بالغضب منهم؟ ماذا رأت القيادة العسكرية من خطر في هذه المظاهرة أو هذه المسيرة؟

أزعم أنها رأت فيها ما كان يجب أن تراه، وما كان يجب أيضا أن يراه قادة هذه المسيرة - إذا كان لهم وجود - الذين أصدروا الأوامر لها بالحركة في اتجاه وزارة الدفاع، وهو أن هذا الحشد من البشر ليس «سائرا» إلى وزارة الدفاع لتقديم مطلب ما، بل هو زاحف عليها. أما حكاية أنها «سلمية.. سلمية» فلا توجد ضمانة على الأرض بأن تظل هكذا عندما تصل إلى هناك، ففي نهاية الأمر هذا حشد من البشر الغاضبين الذين من المحتم في لحظة أن يلجأوا إلى التحطيم والتدمير وما هو أبعد، وهذه مسألة لا جدل فيها أو نقاش أو فصال.. فوعي الإنسان الفرد ووعي الجماعة، وكلاهما يعمل بنفس الآليات، يختفيان لتحل محلهما آليات مختلفة تماما في حالة الحشد الثائر، فتختفي كل ضوابط الوعي ومحاذيره ومحظوراته، لتحل محلها كل غرائز البشر العدوانية. الإنسان الفرد والجماعة يسيران على الأرض، أما الحشد الهائج فهو يزحف عليها في اتجاه الهدف، هذا ما رآه أصحاب وزارة الدفاع، وهو صحيح، وما كان يجب أن يراه أيضا أصحاب المظاهرة الذين لم نعرفهم حتى الآن، وربما ليس لهم وجود أصلا، وتكون الحكاية أن شخصا ما بين الجماهير الغاضبة صاح «ياللا بينا على وزارة الدفاع»، فتبعه الحشد على الفور.

إن التمجيد الدائم للمظاهرات يخفي عن أعيننا حقيقة ما يجب أن نعرفه عن سيكولوجية الحشد الغاضب. لو افترضنا أن هذه المظاهرة كان يتقدم الصفوف فيها نجيب محفوظ وعبد الله النديم ورياض السنباطي والسيدة فاتن حمامة، فمن المحتم أن ينضم لها آخرون عرفتهم القاهرة في ثوراتها القديمة، ووصفهم المؤرخون بأنهم «الأزلام والجعيدية والشطار والعيارون». هناك لكل مدينة أحشاء في حالة استقرار وكمون، هذه الأحشاء في حالة انتظار دائم لتلك اللحظة التي تهب فيها لتزحف على وجه المدينة، وفي ذلك لا تختلف مدينة عن مدينة أخرى على وجه الأرض.

اليوم، وربما غدا، تصدر عدة قرارات بإزالة وتطهير الأداة الحكومية من أتباع النظام السابق أو الحزب الحاكم السابق، بعدها مباشرة تنطلق حملة «اصطياد الساحرات».. الحقوا.. خلف هذا الباب، أو تحت هذا الحجر، أو وراء هذه الشجرة أحد التابعين للنظام السابق.. ثم نكتشف بعدها بشهور أن شيئا لم يتغير في مصر، وأن سلوك المسؤولين على المستوى القيادي أو الوسيط لم يتغير، وبناء عليه تبدأ قافلة صيد أخرى.

المشكلة ليست في البشر، المشكلة في المفردات التي ظلت وستظل على حالها في غياب تحديد أهداف جديدة للمجتمع تجنح به إلى شاطئ الأمان. الجهاز الإداري سيقوم بتنفيذ ما تطلبه منه الحكومة بشرط أن تعرف الحكومة ما تريد. في مقال سابق قلت إن هناك عقبتين تعترضان طريق مصر إلى المستقبل، وهما موقفنا من الاقتصاد الحر، وقضية السلام مع إسرائيل.. الواقع أنهما مشكلة واحدة وعقبة واحدة.. فالرغبة في الحصول على الحرية أو تجسيدها على أرض الوادي من المستحيل أن تنفصل عن السير في طريق الاقتصاد الحر، الذي بدوره سيظل عاجزا عن التحقق في وجود مسؤولين امتلأت قلوبهم وعقولهم بالرعب من عفريتين هما إسرائيل وأميركا.

في الأسبوع الماضي أيضا تم ترشيح شاب من شباب التحرير هو حازم عبد العظيم ليعمل وزيرا للاتصالات, وهو شاب لم يطعن أحد في قدراته العلمية وحماسته، ثم اتضح أنه كان أحد المساهمين بـ5 في المائة في شركة «لها صلة» بشركة لها تعاملات مع إسرائيل. وقبل أن يحلف اليمين تم استبعاده مع خبر في الجرائد يقول إنه اعتذر عن عدم قبول المنصب، وعلق هو «لم يحدث أن اعتذرت.. لماذا يكذبون؟.. وهذا الذي استبعدني لماذا قبل أن يعمل مسؤولا كبيرا في حكومة بينها وبين إسرائيل اتفاقية سلام؟».

وهناك سؤال.. أو عدة أسئلة أخرى موجهة للذين حرموا الحكومة المصرية من قدرات هذا الشاب: وماذا عن العاملين في الشركات المصرية المتعاونة مع الشركات الإسرائيلية في مشروع «الكويز» الخاص بتصدير المنتجات المصرية إلى أميركا بغير رسوم جمركية؟.. وماذا عن العاملين في الشركات الأجنبية في مصر وكلها بالطبع لها تعاملات وفروع في إسرائيل؟