ثمن الحرية والكرامة الغالي

TT

ما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا، وإن لم يصل، بعد، إلى حرب أهلية، قد يمهد لها. كما أن التجاذبات السياسية الحادة في مصر وتونس، بين «شبان الثورة» والقائمين على المرحلة الانتقالية، لا يحمل على التفاؤل. ولكن هذا هو منطق الثورات والانتفاضات الشعبية التاريخية التي «غيرت وجه التاريخ»، كما يقولون، وهو منطق عجيب، لا يخضع لأي قاعدة ثابتة أو صالحة لكل الشعوب والأزمان. اللهم سوى أن من «يقومون بالثورة» لا يقطفون دائما ثمارها، بل غالبا ما يقطف هذه الثمار - أي الحكم الجديد - طرف أو فريق ثالث. قد يكون قائدا عسكريا أو الحزب الأكثر تنظيما، أو الطرف الذي تدعمه قوى خارجية فاعلة.

لقد رحبت الدول الكبرى والمجتمع الدولي، والرأي العام العربي بما سمي بالربيع العربي. ولا عجب. ففي معظم الدول العربية كان الشعب يعاني أوضاعا ومشاكل لا تنتظر سوى شرارة لتنفجر: حكم سلطوي متماد منذ ثلاثين أو أربعين عاما، كبت للحريات، بطالة متفشية، أوضاع اقتصادية صعبة، وفساد حكومي وإداري مستشر. ولكن بعد الترحيب المبدئي والحرص على عدم التدخل المباشر، تلافيا لأخطاء سابقة، راحت الدول الكبرى وبعض الدول العربية تتدخل بشكل أو بآخر، سياسيا واقتصاديا هنا، وعسكريا وإعلاميا هناك. حتى بات من حق المراقب أن يتساءل: ما الذي يريده هذا المجتمع الدولي من العرب؟ وماذا، أيضا، تريد الشعوب العربية من العالم؟ ومن المرشحين أنفسهم لحكمها؟

إن المجتمع الدولي يدعو إلى انتشار الديمقراطية في كل الدول العربية والإسلامية لأنها تتوافق مع المبادئ التي يرفعها ولأنه، ربما، يعتقد بأنها تحمل معها السلام والاستقرار والإنماء، وتسهل العلاقات بين الشرق والغرب. هذا في الظاهر، وربما على المدى الاستراتيجي البعيد. أما في الواقع فإن الحسابات التكتيكية وخدمة مصالحها الراهنة تفرض على الدول الكبرى اتباع سياسات أو اتخاذ مواقف متباينة بالنسبة لكل من سوريا وليبيا واليمن وغيرها من الدول العربية التي انتفضت شعوبها. فمن الحسابات، مثلا، التساؤل عمن سيؤول إليه الحكم بعد الربيع العربي؟ أللإسلاميين الراديكاليين، أم للإسلاميين المعتدلين (النموذج التركي) أم للديمقراطيين المدنيين؟ وهل ستعزز هذه الانتفاضات ومآلاتها مكانة إيران ودورها في المنطقة؟ وماذا سيكون الموقف العربي القومي من إسرائيل إذا قامت أنظمة حكم جديدة في الدول العربية؟ لا سيما في مصر وسوريا؟

كثيرون من المنظرين السياسيين، العرب والغربيين، اعتبروا هذا الذي حدث ويحدث في العالم العربي منذ ستة أشهر، «ثورة من أهم الثورات لا في تاريخ العرب الحديث فحسب، بل في تاريخ العالم». بعضهم شبه هذا الربيع العربي بثورة 1789 الفرنسية، وآخرون بثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 الروسية. وعلى الرغم من أنه من الصعب تبصر ما ستؤول إليه هذه الانتفاضات، فإنه من الراهن أن العالم العربي بعد اليوم لن يكون مثله قبل يناير (كانون الثاني) 2011.

إذا نظرنا إلى ما آلت إليه الثورة الفرنسية قبل أن يطوي نابليون بونابرت صفحاتها الدامية، أو ما آلت إليه الثورة الروسية والصينية والكوبية وغيرها من الثورات التي رفعت أجمل الشعارات الإنسانية عند قيامها، وانتهت سجنا كبيرا لشعب محروم من الأمل، لأدركنا أن موسم قطف ثمار هذه الثورات العربية ليس قريبا. وأن دماء كثيرة سوف تسيل وقيادات عدة سوف تفرزها الأحداث ثم تحطمها، لتفرز غيرها. إلا أن الفرق بين الثورات العربية المشتعلة اليوم، وثورات القرنين التاسع عشر وبدايات العشرين، هو أن العالم يومذاك كان يختلف كثيرا عما هو عليه اليوم. لم يكن هناك تشابك وترابط بين مصالح الدول الكبرى والدول الصغرى، كما هو قائم، اليوم. لم يكن هناك رأي عام عالمي ومجتمع دولي يشرعن التدخل في النزاعات الداخلية للدول إذا هددت السلام أو تجاوزت حدا معينا من القساوة وسفك الدماء.

لقد حرصت بعض قيادات الشعوب العربية الثائرة على أن لا تتدخل الدول الكبرى في ثورتها، سلبا أو إيجابا. ولكن بعض القيادات الأخرى لامت الدول الكبرى والدول الشقيقة على مواقفها السلبية، أو دعمها غير الكافي. ولعلها تناست أن الدول الكبرى تتنافس على خيرات الشرق الأوسط، وتصفي الحسابات بينها على حسابه (إبان الحرب الباردة، مثلا). وأن ملفات العراق وأفغانستان (وباكستان) لم تغلق بعد. وأن هناك دولة إسرائيل التي استطاعت، حتى الآن، تقديم مصالحها على المصالح العربية في العواصم الكبرى.. وأن هناك إيران التي لا تخفي رغبتها في إعلاء كلمتها في هذه المنطقة من العالم، كي لا نقول فرض إرادتها. وأنه، في هذه المعمعة من المصالح والنزاعات المتشابكة، ليس من السهل تبصر صوابية أو خطأ أي خطوة سياسية. لا سيما إذا كانت سريعة كما يطالب بها الشبان الثائرون في الساحات العامة.

هل يعني كل ذلك أن الربيع العربي قد يطول فصولا ويمتد سنوات؟ وأن المجتمع الدولي، من أمم متحدة إلى منظمات إقليمية، سوف تترك الثورات والانتفاضات العربية تجري في أعنتها، حتى نهايتها، لتعترف بالمنتصرين فيها؟ لسوء الحظ، هذا هو المرجح. ولا تسأل عن الدماء التي ستسيل. ولا عن الخسائر الاقتصادية التي سيتكبدها العالم العربي في الأشهر أو السنوات المقبلة؟

ولكنه ثمن الحرية والكرامة والعدالة. وقد دفعته شعوب كثيرة قبلنا، وقد تدفعه، بعدنا.