ضرورة التغيير في سوريا وخصوصيته

TT

لأول مرة منذ خمسة عشر قرنا يطرح التاريخ في جدول أعماله مهام الثورة السياسية الوطنية الديمقراطية في الوطن العربي، كمهمة قابلة للإنجاز، بعد كل الإرهاصات الفاشلة التي سبقتها منذ بداية ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة. السبب في ذلك يكمن في التناقض الكارثي بين مستوى تطور العلاقات الرأسمالية في المجتمع، وعلى الصعيد الدولي، وطبيعة النظام السياسي القائم، بين مستوى تطور الحاجات المجتمعية والجماعية والشخصية، وقدرة النظام السياسي العربي على تلبيتها. من هذا المنطلق فإن ما يجري في الوطن العربي هو ضرورة في التاريخي، وليس مؤامرة تحيكها الدوائر الغربية، والأميركية منها، على وجه الخصوص. لقد فاجأت الثورات العربية الديمقراطية هذه الدوائر، التي تحاول الآن جاهدة الالتفاف عليها، أو إعاقتها حتى لا تصل إلى نهايتها الحاسمة بإنشاء أنظمة سياسية ديمقراطية حقيقية، تؤسس لبناء دول مدنية ديمقراطية. من جملة الأسباب التي يمكن سوقها للبرهنة على ذلك سببان رئيسيان:

الأول منهما يتعلق بوجود إسرائيل، التي سوف تفقد حصرية تقديم نفسها على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة هذا من جهة، ومن جهة ثانية لن تستطيع بعد الآن فرض إرادتها على حكومات ديمقراطية منتخبة في أي تسويات سياسية محتملة، بل ثمة مؤشرات حقيقية على إعادة النظر في التسويات المنجزة في ضوء المصالح الوطنية والعربية العليا، هذا عدا عن فتح خيارات أخرى، مما أرغم إسرائيل على إعادة النظر في استراتيجيتها.

السبب الثاني وهو شديد الأهمية، ويتعلق بكون الديمقراطية سوف تتيح فرصا حقيقية للتنافس في سبيل تنمية وطنية حقيقة، توظف جميع الإمكانات المتاحة، ومنها الثروات الطبيعية، والقوة البشرية، والموقع الاستراتيجي في خدمتها، مما يتيح لأول مرة للشعوب العربية الدخول في العصر، وامتلاك عناصر القوة بالمعنى الحضاري.

بمعنى آخر، فإن نجاح الثورات السياسية العربية سوف يؤدي إلى التحكم بالقضيتين المحوريتين المحددتين للاستراتيجيات الغربية تجاه المنطقة العربية، أعني العلاقة مع إسرائيل، والثروات الطبيعية، وتوظيفهما في خدمة المصالح الوطنية والعربية العليا.

لقد تأخرت الثورات السياسية الديمقراطية في الدول العربية، لأسباب كثيرة، مع ذلك فهي قد قدمت نموذجا للثورات الشعبية غير مسبوق في التاريخ.

من مفارقات التاريخ أنه عندما يطرح في جدول أعماله الثورة كمهمة قابلة للإنجاز لا يهتم أبدا بالصدف التي تقود إليها (مثلا البوعزيزي في تونس، وخالد سعيد في مصر، وأطفال درعا وعقال ذلك الشيخ في سوريا...)، ويتجاهل في كثير من الأحيان طبيعة القوى الاجتماعية التي تشكل قبضته، فهو ينشغل بالعملية، وباتجاه الحركة فيها، وبمآلها النهائي، لا بتفاصيلها. إنه يترك التفاصيل لنا نحن - أدواته الفاعلة في الحركة - لنقوم بنقلها من حيز الضرورة الكامنة، إلى حيز الضرورة الفاعلة، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. وإذ نقوم بنقلها، فإن الظروف الخاصة بكل بلد عربي تترك بصماتها على طريقة النقل، وتحدد كلفتها، وزمن استغراقها.

لقد ساهم وجود مستوى معين من الحياة السياسية، والاستقلالية النسبية لهيئات المجتمع المدني والأهلي، وميل ميزان القوى المجتمعي الفاعل لصالح قوى التغيير، وكذلك وجود مؤسسة عسكرية وطنية غير سياسية، في تسريع عمليات إسقاط النظامين السياسيين في كل من تونس ومصر. أما في اليمن فإن وجود حياة سياسية نشطة، والتوازن النسبي بين قوى التغيير المجتمعية والسياسية، والقوى الداعمة للنظام، وخصوصية المؤسسة العسكرية التي تدخلت البنى الأهلية في تكوينها، جعلت عملية التغيير تطول، وتأخذ طابع المساومة والحلول الوسط.

الوضع في ليبيا يختلف جذريا. هنا لم يسمح نظام القذافي بوجود دولة، بل سلطة عائلية، وبالتالي لم يكن هناك حياة سياسية، ولا جيش وطني، ولا تنظيمات مدنية، أو أهلية خارج الأطر القبلية التي حاول القذافي استمالتها إليه مستخدما ثروة ليبيا الهائلة التي بذرها في كل اتجاه.. ومع أن انتفاضة الشعب الليبي، أخذت في البداية الطابع السلمي، وشملت جميع المدن الليبية في تعبير واضح عن رغبة الغالبية العظمى من الشعب الليبي بضرورة التغيير، إلا أن الرد العنفي للنظام الليبي، وتدخل القوى الخارجية جعل مسار التغيير يأخذ صيغة الحرب الأهلية.

في الجزائر والمغرب حيث يوجد مستوى جيد من الحياة السياسية الديمقراطية، ومن الحريات الإعلامية، سرعان ما استجابت السلطات لمطالب التغيير المجتمعية والسياسية، فأعلن في الجزائر عن برنامج إصلاحي متكامل يجري إعداده وتنفيذه خلال سنة بمشاركة جميع القوى السياسية والمجتمعية في البلاد. وفي المغرب تم الإعلان عن لجنة لتعديل الدستور بما يستجيب لمطالب الشعب في التغيير، والتحول إلى ما يشبه الملكية الدستورية.

بالنسبة لسوريا، التي تعنينا، ثمة خصوصيات لا ريب فيها سوف تلقي بظلالها على مسار التغيير، ينبغي أن تأخذها بالحسبان قوى التغيير المستجدة (الحراك الشعبي في الشارع) كما أخذتها قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية في سوريا سواء في التجمع الوطني الديمقراطي، أو في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، أو في تحالف الأحزاب الكردية، أو بعض النخب الثقافية، والتي شكلت الأساس التي استند إليه مطلبها في التغيير السلمي الآمن والمتدرج منذ نحو عشر سنوات ولا تزال متمسكة به.

لقد استطاع النظام خلال نحو أربعة عقود بناء دولة أمنية جهازيه قل نظيرها، في تعميم واسع لمفهوم الأمن بحيث شمل جميع مناحي الحياة في سوريا. وبناء عليه فإن القوة الحقيقية في هذه الدولة هي للأجهزة الأمنية، فهي المرجع والمقرر في كل ما يخص الدولة والسلطة والمجتمع. وفي ذات السياق تم تسييس المؤسسة العسكرية تحت غطاء من العقائدية البعثية، التي أخفت تحتها استخداما واسعا وفجا لكثير من البنى الأهلية في بناء الجيش، بل أعدت قوات النخبة فيه (الحرس الجمهوري) لتنفذ مهام أمنية صرفة. ومن أجل إخفاء وتمويه حقيقة الدولة الأمنية الجهازية التي بناها النظام، تم استخدام حزب البعث، والأحزاب المتحالفة معه في إطار ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية، بعد قتل روح الحزبية فيها، وتحويلها إلى مجرد أجهزة للسلطة، لتؤدي وظيفة الغطاء السياسي الديكوري لها.

وفي ذات السياق نجح النظام في توظيف حزب البعث، من خلال توسيع إطاره وإرغام الفئات الشابة على الانتساب إليه، أو من خلال المنظمات التابعة له، لشل إرادة قطاعات مهمة من الشعب، ومنعها من رؤية الأسباب الحقيقية لمعاناتها ولما تعاني منه سوريا بصورة عامة. ومن أجل تأمين مزيد من السيطرة والتحكم بالمسجلين في حزب البعث، أصدر النظام قانون أمن الحزب، لترهيب البعثيين أنفسهم، ولقتل روح التساؤل لديهم. لقد حول النظام البعثيين، وقاعدتهم الاجتماعية إلى مجرد آذان تسمع، وأياد تصفق، وحناجر تصرخ بالروح بالدم.. ومن أجل الهدف الأمني ذاته، تم تحويل جميع التنظيمات النقابية وهيئات المجتمع المدني والأهلي، بعد القضاء على الروح النقابية فيها، إلى مجرد أجهزة للسلطة تقوم بمهام أمنية بالمعنى الواسع لمصطلح أمن.

* كاتب سوري معارض