الفرقة النرويجية

TT

صيف 1958 مر في القرية ضابط نرويجي وسائقه، يسألان عن الطريق. نادى علي جدي من الشرفة أن أدعوهما إلى التفضل. شعر بمتعة وهو يستعيد ما بقي من لغته الإنجليزية التي حملها من هجرته إلى أميركا. وصار القومندان النرويجي وسائقه يمران علينا باستمرار. ثم صار رفاق القومندان يمرون أيضا. وصيف القرية مليء بثمارها، وليس بثمار التشيلي وجنوب أفريقيا، كما هو الحال اليوم.

نسيت للأسف اسم القومندان (المقدم) الذي كان رجلا طيبا ومؤدبا وبديع اللطف. وفي كل مرة كان يدعوني إلى أن أزوره في النرويج عندما أستطيع. بل عرض علي أن يتدبر لي منحة دراسية هناك. ومع نهاية الصيف عدنا إلى بيروت ونسيت أصدقائي الاسكندنافيين الذين كانوا في عمر والدي، الذي بعكس جدي، لم يكن يعرف الإنجليزية، فكان يكتفي بإلقاء التحية عليهم، وإشعارهم بأنه يشاركنا، جدي وأنا، بالترحيب بهم.

كانت تلك أول علاقة للبنان «بالقوات الدولية» التي نفجر اليوم قوافلها، في المكان نفسه، على مدخل صيدا الجنوبي، كما تفيد تقارير الدرك. وعندما أكون في لبنان أمر في صيدا مرتين على الأقل في الأسبوع، لكنني لا أعرف أيهما مدخلها الجنوبي وأيهما المدخل الشمالي. ولا أعرف أيضا لماذا يصر المفجرون على الرتابة، ولا يغيرون الملل، بتغيير جهة المدخل.

كنت ألاحظ من جلسات القرية أن الاسكندنافيين يتحدثون دائما بصيغة المضارع، وكأنه ليس في لغاتهم فعل ماض. وكانوا دائما باسمين. وكانوا يفرحون بالأشياء الصغيرة، فيطربهم مثلا عنقود عنب، وكأنهم رأوا «الإمباير ستيت». وكانوا يتحدثون دائما عن الطقس وكم هو منة من السماء لا من الأرض. ولم نكن نفهم أن سبب ذلك أنهم في الشمال ونحن في الجنوب. نحن لنا الشمس وهم لهم النور. نحن نرث الحروب وهم يرسلون إلينا الوسطاء والقوات الدولية والكونت برنادوت لكي تغتاله إسرائيل وإسحاق شامير، الذي ترك أول لقاء في مؤتمر مدريد لكي يصلي السبت في تل أبيب.

من الصور التي لا تمحى من ذاكرتي، صورة ضيوفنا، جدي تامر وأنا، الاسكندنافيون والقومندان النرويجي الباسم، الذي يشعر بالامتنان لكل شيء في الحياة. النسيم والغروب وعنقود العنب وهدوء الجبهات في لبنان والقطة التي مرت أمامنا وذكريات جدي في المكسيك وفلنت ميتشيغان. وظل حتى نهاية الصيف يتظاهر أنه يسمعها للمرة الأولى.