مسكين بيرنانكي ترك وظيفته المريحة في جامعة بيرنستون التي كان يعمل فيها بروفسور للاقتصاد.. وماذا كان جزاؤه؟ بذل بيرنانكي جهدا مضنيا لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من الكساد، بيد أنه على الرغم من كل جهوده، يبدو أنه لم ينل حقه من التقدير إلى حد كبير.
فمؤخرا استطلعت قناة «سي إن بي سي» آراء بعض الأميركيين وسألتهم: «هل تثقون في الطريقة التي يدير بها بن بيرنانكي الاقتصاد؟»، كانت إجابة خمسة وتسعين في المائة ممن استطلعت القناة آراءهم «لا».
صحيح، أن المسح الذي أجرته القناة ربما يكون بعيدا عن العلمية إلى حد كبير، لكنه يعكس القلق العميق الذي ينتاب الكثير من الأميركيين بشأن مصرف الاحتياط الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي»، وسياساته، حيث يبدي الكثير من المنتقدين من اليمين واليسار كراهية للطريقة التي يؤدي بها بيرنانكي وأقرانه أعمالهم. ولكن دعونا نستعرض هذه الشكاوى.
أكد المنتقدون في اليسار خلال ذروة الركود الأخير والانتعاشة الاقتصادية الهزيلة التي نمر بها أنه كان على المصرف الاحتياطي الفيدرالي بذل المزيد من الجهود. فقد كانوا يخشون من سقوط الولايات المتحدة في أزمة طويلة أشبه بالعقد الضائع الذي شهدته اليابان، والذي شهد ارتفاع معدلات البطالة وأعاقت مخاطر خفض التضخم الأفراد من الاقتراض والاستثمار وعودة الاقتصاد إلى عافيته.
في الوقت ذاته كان المنتقدون من اليمين يبدون قلقا من زيادة المصرف الفيدرالي من القاعدة النقدية للبلاد بسرعة غير مسبوقة تاريخيا، مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بمعدلات الفائدة قريبة من صفر - النهج الذي قالوا إنه سيتسبب في ارتفاع معدلات التضخم. حتى أن البعض منهم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك باقتراح إلغاء التفويض المزدوج للمصرف الفيدرالي للحفاظ على استقرار الأسعار في وقت متزامن - وهو ما يعني إبعاد شبح التضخم - في الوقت الذي يضاعف فيه فرص عمل مستدامة. ويرى هؤلاء الأفراد أنه كان من الأفضل استبدال الهدف المزدوج بالتركيز بشكل كبير على التضخم. بيد أن سجلات بيرنانكي تظهر أن مخاوف كلا الجانبين تمت المغالاة بشأنها بشكل كبير.
تولى بيرنانكي رئاسة المصرف الفيدرالي في فبراير (شباط) 2006. ومنذ ذلك الوقت، كان متوسط قياس التضخم الذي يفضله المصرف الفيدرالي - مؤشر السعر للاستهلاك الفردي، باستثناء الطعام والطاقة - 1.9 في المائة سنويا. فيما بلغ متوسط مؤشر السعر الأوسع الذي يضم الطعام والطاقة بـ2.1 في المائة.
وكانت النتيجة التي حققها خلال هذه السنوات قريبة بشكل واضح من هدف التضخم غير الرسمي الذي حدده المصرف الفيدرالي بـ2 في المائة. ولذا فعلى الرغم من الاضطراب الاقتصادي الذي عانيناه خلال السنوات الخمس الأخيرة حافظ المصرف الفيدرالي على مساره. ربما يكون هذا الرقم تراجع خلال السنوات الأخيرة. بيد أن مؤشرات الأسواق المالية مطمئنة. فمعدل الفائدة على سندات الخزانة أجل عشر سنوات، على سبيل المثال، تقف عند 2.8 في المائة في الوقت الذي كانت فيه عوائد سندات الخزانة المحمية من التضخم نحو 0.4 في المائة فقط. الفارق بين هذين العائدين، الذي يطلق عليه «معدل تضخم متوازن»، هو معدل التضخم الذي تجني خلاله كلا النوعين من السندات نفس العائد. ونظرا للارتفاع الطفيف للتضخم في الوقت الراهن حيث يتجاوز 2 في المائة بقليل، يعد إشارة إلى أن الأسواق لا تتوقع أن يختلف التضخم كثيرا خلال العقد المقبل عن ذلك الذي شهدناه خلال السنوات الخمس الماضية. والتوقعات بالتضخم تتأرجح بالقرب من المعدل المستهدف لها.
فهل كان بمقدور المصرف الاحتياطي الفيدرالي القيام بما هو أكبر من ذلك لتفادي الركود وتعزيز الانتعاش؟ ربما لا. لقد استخدم مصرف الاحتياط الفيدرالي سلاحه الرئيسي في محاربة الركود - خفض معدلات الفائدة قصيرة المدى - بقوة نظرا لعمق الأزمة. ثم تحول إلى استخدام الأسلحة غير التقليدية أيضا والتي كان من بينها جولتان إضافيتان من التيسير الكمي، عبر شراء السندات بشكل رئيسي في محاولة لخفض معدلات الفائدة بعيدة المدى.
وقد أكد عدد قليل من الاقتصاديين، يجانبهم في ذلك شيء من المنطق، أن صورة فرص العمل ستكون أكثر إشراقا إذا ما رفع المصرف الفيدرالي هدفه بشأن التضخم إلى أعلى من 2 في المائة. وأشاروا إلى أن التضخم المتوقع المرتفع سيخفض معدلات الفائدة الحقيقية ومن ثم يشجع الإقراض. وسيوسع ذلك في المقابل الطلب الإجمالي على البضائع والخدمات. ومع ارتفاع الطلب على منتجاتهم ستزيد الشركات من نسبة الاستخدام. وحتى إن كان ذلك صحيحا فإن هدف التضخم المرتفع لن يكتب له النجاح سياسيا. والاقتصاديون منقسمون بشأن ما إذا كان الهدف الأعلى مجديا وما إذا كان المواطنون قد يعارضون ارتفاعا أكثر سرعة في تكاليف المعيشة. ولو أن بيرنانكي كان قد اقترح زيادة التضخم إلى 4 في المائة، على سبيل المثال، لعاد سريعا إلى عمله السابق كأستاذ في الجامعة. بيد أن أقصى ما يمكن للمصرف الفيدرالي القيام به هو تقنين مسار السعر المخطط له بـ2 في المائة. وهو ما يعني أن المصرف الفيدرالي بمقدوره الإعلان عن ذلك، بأنه يهدف إلى الوصول إلى مستوى سعر يرتفع 2 في المائة سنويا، ويعد بانتهاج سياسات للعودة إلى مسار السعر المستهدف إذا رفعت هزات الاقتصاد مستوى السعر الحقيقي منها.
مثل هذا الإعلان يمكن أن يهدئ من روع المنتقدين على كلا الجانبين. وإذا ما بدأنا تفحص النموذج الياباني الذي عمل على خفض التضخم الذي أثار المخاوف، سيحافظ المصرف الفيدرالي على سياسة نقدية موسعة وحتى السماح بقليل من التضخم الإضافي لتعويض الأخطاء السابقة. وإذا ما واجهنا تضخما مرتفعا يقلق اليمين، سيكون المصرف الفيدرالي ملتزما برفع معدلات الفائدة بعنف لإعادة التضخم إلى المستوى المستهدف.
الأهم من ذلك، مسار الهدف المعلن للتضخم سيضيف المزيد من التأكيد على الاقتصاد. خطط الأميركيين لتقاعدهم ستكون ذات إدراك أفضل بشأن تكاليف المعيشة قبل عقد أو عقدين. الشركات التي تقترض في سوق السندات يمكن أن تخفض بالفعل من التكلفة الحقيقية لتمويل مشروعاتها الاستثمارية. لا يمكن لبيرنانكي أن يزيل كل الشكوك التي تعلو أوجه الشركات والأفراد لكنه قادر على إزالة جزء بسيط منها وفقط. وسيشجع ازدياد الثقة، والأمور الأخرى أيضا، من الإنفاق أو تعزيز تعافٍ أكثر سرعة. وربما تزيد من معدلات قبول بيرنانكي قليلا. ويعمل جورجي مانكوي، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، مستشارا اقتصاديا في حملة ميت رومني الحاكم السابق لولاية ماساتشوستس، المرشح الجمهوري للرئاسة.