نصيحة الترابي

TT

في حوار معه نشر مؤخرا في هذه الجريدة، يتحدث حسن الترابي، أحد أبرز وجوه التيارات الأصولية السياسية في العالم الإسلامي، عن أن ظروف الثورات العربية الحالية تتيح المجال واسعا للحركات الإسلامية من أجل تقدم الصفوف وتولي السلطة، بعد حرمان طويل.

الترابي، داهية الإسلاميين، ومن أكثرهم جرأة في الاجتهاد، في مجالي الدين والسياسة، يلفت إلى ملاحظة خطيرة، وهي أن هذا الفرح الذي يبديه الإسلاميون بحلول لحظتهم، وقيام قيامتهم، فرح يجب إعادة النظر فيه، فالترابي يرى أن هذه لحظة ابتلاء ومحنة للإسلاميين وليست لحظة نصر ومجد!

خلاصة تنبيه شيخ الإسلاميين في السودان، هي أن الحركات الإسلامية في الحقيقة غير جاهزة وغير مؤهلة للحكم والإدارة الآن، فهناك صعوبات كثيرة تعترض طريق الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي للحركات الإسلامية، يتحدث عن أن الصوفيين يقصرون نشاطهم على التزكية والتربية الذاتية، والبقية من الإسلاميين على النشاط الوعظي أو الكلام العام في السياسة والاقتصاد. وهو يرى أن مسائل الاقتصاد والسياسة أعقد كثيرا من هذا الفهم وهذا التبسيط، ثم يصل إلى النتيجة الهامة وهي أن هناك أمورا جديدة لم يكن للأسلاف بها عهد في نمط العلاقات الدولية والفلسفة السياسية، ومسائل الاقتصاد وكيفية اشتغاله، وعن أثر خفض ورفع سعر الفائدة على حركة المال في العالم، وعقد كثيرة ومتشابكة يفضي بعضها إلى بعض ما بين الصناعة والتقنية والتجارة والاقتصاد والمصرفية.. الخ. وكل هذه الأمور ليس لشيوخ العلم الشرعي شأن بها، وإن كان لهم شأن بها فهو مجرد ثقافة عامة، لذلك فهو يرى أن يوسع مفهوم الاجتهاد ولا يقصر على مجرد رجال التعليم الديني، فمجالات الاجتهاد أوسع وأعمق في عصرنا مما كان يتم الحديث عنه في كتب التراث أو في الخطاب التراثي المعصرن، وطبعا أكثر مما يتناوله خطباء الإسلاميين المسيسين حول الشعارات العامة عن الحاكمية والشريعة، وغير ذلك.

بكلمة واحدة: الترابي يقول إن الإسلاميين ليسوا مؤهلين لتنفيذ برنامج حقيقي وعميق للإنقاذ ورسم خارطة طريق للشعوب العربية الثائرة.

قيمة هذا الكلام أنه يأتي من واحد من أكبر منظري الخطاب السياسي الأصولي، وكتبه شاهدة بذلك، وهي بالفعل كتب مهمة وجريئة.

ثم إن قيمته تأتي من كون قائله واحدا من أهم من طبقوا، أو حاولوا، كلامهم على الأرض وغاص إلى رقبته، في وحل السياسة السودانية، وصراع الأنداد، ودخل السجون مرارا، في لعبة الكراسي، وتحالف، ونكث، وحكم، وطرد، ووالى، وعارض، وغامر في الإقليم، وانكفأ داخل الخرطوم، وشاب شعره في نار التجربة السياسية الصاخبة، من بوابة الأصولية السياسية.

لن نسأل الترابي عن حصاد تجربة الحكم الأصولي في السودان، وهي التجربة التي جلبت الجنرال عمر البشير ورفاقه من أنصار الجبهة الإسلامية إلى الحكم، وهو الحكم الذي جلب الخراب للسودان وقسم البلد إلى قسمين، وضيع ثروات البلاد والعباد، وما زال قابعا في سدة الحكم.

ولن نسأل الترابي عن احتضانه أيام الوفاق مع البشير لكل الحركات الإسلامية الثورية في العالم الإسلامي وتحويل السودان إلى «قلعة الحشاشين» الأصولية على غرار قلعة آلموت الشهيرة للحسن بن الصباح. كما لن نسأله عن سر احتضان أسامة بن لادن وقادة جماعات العنف الأصولي في السودان في عقدي الثمانينات وكثير من التسعينات. وما هي فائدة شعب السودان من مثل هذه المغامرات الخطيرة.

الرجل، تخاصم مع تلميذ الأمس، وحاكم اليوم، عمر البشير، وقد سجنه الرجل عدة مرات، وهو الآن في خندق المعارضة، ويقول إنه لو كان في الحكم لما انفصل جنوب السودان!

الحق أنني أستمتع بحسن الترابي المفكر والمنظر والمجتهد في خلق إمكانات جديدة في التفكير السياسي للمسلمين، ومصالحتهم مع معطيات الفلسفة السياسية الحديثة، ومفاهيم حقوق الإنسان، لكن حسن الترابي اللاعب السياسي، هو نموذج سيئ ورديء لماهية تصرف المثقف الأصولي العربي إذا وصل للحكم، وفهم السياسة على أنها فقط فن المراوغة والمكر.

مناسبة حديث الترابي الأخير هذا كانت زيارته لمصر، بعد غياب طيلة عهد مبارك، وهو الآن كما يقول يزور مصر ليجدد الشوق، ويتعرف على الحال، فمصر كما يقول، وقد صدق، تؤثر كثيرا على السودان، وهو يريد أخذ تصور شخصي عن اتجاهات القوى وطبيعة المزاج المصري.

من المؤكد أنه رأى وسمع الذعر الذي أصاب ما يسمى بالقوى المدنية في مصر من زئير الإسلاميين خصوصا التيارات المتشددة منهم، ولا أقول السلفية فكلهم سلفيون بمن فيهم الإخوان!

هناك مناحة في مصر من قبل بعض الإعلاميين، ومعهم شباب القوى اليسارية والقومية والقوى الحديثة، والتي تتسمى كلها بالقوى الليبرالية، ولا حديث للقوم هناك إلا عن بعبع السلفيين والإسلاميين، خصوصا بعد الشعارات الرهيبة التي رفعوها في ميدان التحرير، وكنسوا كل القوى الأخرى في الميدان. بعد عدة أشهر من المناكفة بين شبان الميدان، المدنيين، وبين المجلس العسكري على خلفية عدة مطالبات، تصب كلها في المضي بالمطالب الثورية الحدية الفورية إلى نهاية الشوط. وبعدها دخل الميدان قوى ملتحية لتدلي هي بدلوها وتقول للشبان: مصر ليست لكم وحدكم أيها العلمانيون، بل لنا نحن أهل الكنانة والمسلمين! فوقع القوم في حيص بيص، وزاد الحرج عليهم، فهل يواجهون من يرفعون في وجوههم شعارات الدين، وكلنا نعرف مدى قوة العاطفة الدينية لدى الفرد المصري؟! لا حل إذن إلا باللجوء للطريقة السحرية وهي: نظرية المؤامرة، نعم المؤامرة، فهناك من اخترع حكاية السلفيين هؤلاء، ليوقع بين الشبان الثوريين الأطهار وبين بعض الدراويش من الإسلاميين، وليس من فاعل لهذا إلا المجلس العسكري، أو أميركا أو إسرائيل، وبطبيعة الحال السعودية مع العسكر المرشح رقم واحد، لتنطلق الحملات على أشرار الظلام الذين يدبرون المؤامرات، في غفلة تامة ومقصودة عن الأسباب الداخلية للأزمة المصرية، وعن أن الأصولية والنزعة المتزمتة للتدين الشكلي موجودة فعلا داخل النسيج المصري منذ فترة طويلة. إذا ما أردنا الحقيقة دون مكابرة، كما هي موجودة في مجتمعات إسلامية كثيرة، بل وفي المهاجر الغربية.

كلام الترابي عن أنه يمكن أن يكون تولي الإسلاميين للحكم في مصر أو في غيرها من البلدان التي ثارت مجتمعاتها، ورطة لهم وليس جائزة، جاء في هذا الظرف الذي تمر به مصر بشكل سافر، وتونس بشكل أقل سفورا، ولعلها من النصائح الحركية النادرة التي وفق فيها الترابي في توجيه إخوانه في التيارات الإسلامية، إن كان ثمة من يرى أو يلقي السمع وهو شهيد.

[email protected]