بين التنزيل والتأويل

TT

لم يختلف المسلمون منذ الرسالة على التنزيل، الخلاف الدائم والواسع على التأويل، خاصة إذا ارتبط ذلك بالموقف من النشاطات السياسية. منذ فجر التاريخ الإسلامي توسع هذا الاختلاف، وخيضت من أجله حروب طاحنة بين المختلفين من المسلمين، ربما سالت بسببها أنهار من الدماء. وكلما اختلط التأويل بالسياسة، أصبح غامضا ومختلفا عليه وشديد التفجر بين الفرقاء.

يوم الجمعة الماضي كانت أرض الكنانة، مصر، هي مكان الاختلاف، وربما احتمال التفجر. مجموعات من أهل الإسلام السياسي هلّت من كل صوب وحدب إلى مركز التعبير الأكثر جاذبية، ميدان التحرير، ورفعت معها العديد من الشعارات، كلها ذات طابع إسلامي بحت. القضية الفكرية، كيف يساس الناس، لم تحل منذ بدأ الخلاف على التأويل. التاريخ الماضي والحديث يسعفنا بالكثير من الأحداث التي اختلف فيها التأويل بين جموع المسلمين، وكان كل بما لديهم من تفسير فرحون، حتى الصدام المروع بين أهل الوطن الواحد.

إلا أن المتطلع إلى ما يحدث في مصر، لا يحتاج إلى أن يبعد بصره عن الحاضر، لجلب تفاسير التاريخ الماضي على قصور طروحات مثل تلك، يكفي الاطلاع على الأحداث منذ نصف قرن أو أقل.

السؤال الأكثر إلحاحا، إذا كانت المرجعية الإسلامية متفقا عليها في التفاصيل، فلماذا يأتي إلى ميدان التحرير عدد كبير من الجماعات، منها السلف ومنها الإخوان المسلمون ومنها الجهاديون ومنها القطبيون ومنها من انشق عن هذا وذاك من التنظيمات وغيرها، كي يقولوا إن كل واحد من هذه الجماعات لديه التأويل الأكثر سلامة للتطبيق السياسي! هو دليل مادي على أن هناك اجتهادات بعضها متعارض مع البعض الآخر.

في الأحزاب المنضبطة والحديثة، عادة ما يكون لها مكتب سياسي يكون المرجع لتفسير ما غمض عند الناس من المواقف السياسية، أو من الخطوات السياسية التي يتخذها الحزب. من من هؤلاء الجماعات التي نزلت إلى ميدان التحرير تستطيع أن تقول إنها الوحيدة المفسرة للشأن السياسي ذي المرجعية الإسلامية الصحيحة والنهائية؟

وإن نظرنا إلى مكان آخر للمقارنة، ننظر إلى السودان التي قفز فيها العسكر إلى سدة الحكم على أجندة الإسلام السياسي، وخاضوا حروبا مع أهلهم، في بعضها ادعوا أن الملائكة تحارب معهم، ومع ذلك خسروا الحرب في الجنوب وخسروا نصف بلادهم فوقها وخسروا الكثير من مناصريهم أيضا، وها هي بعض مناطق السودان تتململ جراء الفشل السياسي، وبعض منها يحمل السلاح ضد النخبة السياسية/ الدينية في الخرطوم! ومثال آخر من الجارة الإيرانية التي رفعت نفس الشعار، خلط رجال الدين برجال السياسة، فلا السياسة فلحت ولا الدين أبعد عن التكتيكات السياسية التي هي أصلا متغيرة ولولبية.

حقيقة الأمر أننا أمام منعطف هام وتاريخي في المسيرة المصرية، ولأنها مصر، فإن أي توجه يسير فيه هذا المنعطف سيكون له تأثير على بقية المحيط العربي. وحتى لا يقرأ أحد ما أرنو إليه قراءة متسرعة، فإن القول الأقرب إلى منطق الأمور، والمطلوب في الفضاء العربي الجديد في القرن الواحد والعشرين، تأكيد ما هو مؤكد في الحضارة الإنسانية، أن أي فصيل في المجتمع يحق له أن يعبّر عن مراده السياسي سلّميا كما يرغب، وكذلك في الوقت نفسه أن يفسح المجال لغيره، بأن يعبر عن مراده السياسي، أن تعيش وتدع الآخرين يعيشون.

في الأجواء المتحضرة وربما الإنسانية لا حصر على أي فصيل اجتماعي أن يدلي بدلوه في كيفية سير مجتمعه، الخطورة في احتكار الحقيقة وبالتالي تهميش الآخر. لا شك أن من كان له توجه إسلامي سياسي إبان فترة الحكم المصري السابق، كان مشكوكا فيه ومهمشا، ذلك التهميش هو الذي كان جذوة النار تحت الرماد التي رقدت طويلا ثم اندلعت فجأة، وبالتالي أي تهميش من نوع آخر سيكون مخفيا تحت رماد المقاومة السلبية حتى يندلع من جديد. على رأي لندون جونسون عند لومه استمرار ترشيح ادغار هوفر لمكتب التحقيقات الأميركي، قال من الأفضل أن يكون داخل الخيمة، ويتبول إلى الخارج، من أن يكون خارج الخيمة ويتبول إلى الداخل.

من هنا فإن التوافق السياسي على مبدأ المساواة والمواطنة والدولة المدنية وإعلاء حقوق الإنسان، أي أن يكون الجميع داخل الخيمة، هو الأقرب إلى انتشال المجتمع، المصري أو العربي، من كل تلك الوحدة التي تسببت حتى الآن في ضياع الفرص، واستنزاف الموارد وتهميش وإفقار الأغلبية.

في مجتمعنا العربي بشكل عام الذي تهمين عليه الأمية الأبجدية والأكثر ضراوة الأمية الثقافية، يستطيع أي فصيل، تحت شعارات قريبة إلى القلوب مثل الإسلام السياسي ذي الجاذبية والقدرة على التعبئة، أن يأخذ المجتمع إلى المكان الذي يريد، ولكن ذلك المكان في القرن الواحد والعشرين، لم يعد مكانا صالحا للسكنى طويلا، حيث تصبح حروبه (جهادا) والخروج عن طاعته (ردة) والاختلاف معه (كفرا).

تجربة السودان من جهة، وإيران من جهة أخرى لا تشجع كثيرا على التفاؤل، حيث يحاصر الرأي السياسي الآخر، كونه مضادا للدين! التجربة التركية ربما لها بعض البريق، ولكنها تجربة سايرت التقدم العالمي، واهتمت بالجوهري، وهو معيشة الناس وحرياتهم، قبل شكلهم الخارجي وسلوكياتهم الشخصية. وعلينا القول أيضا إن تلك التجربة، في حال ضعف المكون الاقتصادي أو إن فشلت في تحقيقه، قد يقرر الجمهور التركي في المستقبل العودة إلى أحزاب أخرى يرى أنها تحقق له المزيد من الرفاه، حيث خير الديمقراطية ما قل واستمر لا ما كثر وتعطل. المعنى هنا أن التجربة التركية بها عامل مهم وهو اعترافها بصندوق الانتخاب الحر غير المقيد وبالشريك الآخر في الوطن. في التجربتين الإيرانية والسودانية، صندوق الانتخاب لم يعترف به كونه بيضة القبان، هو طريق ذو اتجاه واحد، كما لا يعترف بالشريك الآخر، وقد يحدث ذلك في مصر.

هل انتهت الأزمة في مصر أم بدأت؟ لا أحد يعلم، ما زالت الأمور ضبابية وغامضة، معظم الدول اليوم في العالم تقرع طبولها على نغمة الاقتصاد، كثير من النخبة المصرية، بكل مكوناتها، تقرع طبولها على نغمة السياسة، وتعالج مشكلات الماضي بروح من الانتقام، بدلا من النظر إلى المستقبل، ذاك يجعل نصف الشارع المصري ضد نصفه الآخر، وكثير منه - مستفيدا من هذه الضبابية - يرفع شعارات فضفاضة لجر المجتمع المصري إلى المشكلات المعقدة في التأويل التي لم تجد لها حلولا على مسار قرون.

آخر الكلام

في مثل هذا اليوم (2 أغسطس/ آب) منذ واحد وعشرين عاما، اجتاحت قوات النظام الصدامي الكويت، وارتكبت كارثة غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث، وجاء وفد إسلامي به رموز إسلامية نشطة حتى اليوم، إلى جدة، ثم ذهب إلى بغداد، ومن هناك أصدر بيانا بتأييد الغزو! أحد أبرز الدلائل على الخلط، وضياع البوصلة السياسية، تأييد المعتدي ضد المعتدى عليه، تصرف سياسي مخالف حتى المعلوم من النصوص. رحم الله شهداءنا.