بن لادن نرويجي؟

TT

هل يمكن اعتبار وحش التطرف والإجرام اندرس بريهنك برييفيك بمثابة بن لادن أوروبي أو نرويجي؟ إلى حد ما، بل إلى حد كبير. نفس الهوس بالهوية الدينية ونفس التصميم والإصرار على الدفاع عنها حتى عن طريق قتلها أو قتل أصحابها قبل أعدائها من أجل العظة إذا لزم الأمر. لولا العيب لقلت: ومن الحب ما قتل! قلت العيب لأني أرفض أن أقرن كلمة الحب المقدسة بشخصيات من هذا النوع. الفرق الوحيد الذي إن لم يكن يعذر بن لادن فعلى الأقل يفسر ظاهرته: هو أن بن لادن نتاج نظام تعليمي خطأ منتشر انتشارا كبيرا في معظم أنحاء العالم الإسلامي. هذا في حين أن هذا الوغد الذميم النرويجي ينتمي إلى واحد من أرقى بلدان العالم وأكثرها استنارة من الناحية الفكرية.

لو كان برتغاليا أو بولونيا أو صربيا لفهمت الأمر إلى حد ما. ذلك أن الأصولية المسيحية لا تزال منتعشة نسبيا في هذه البلدان. أما في النرويج، وفي البلدان الاسكندنافية التي هي أرقى من سويسرا فإن الأمر غير مفهوم على الإطلاق. كيف يمكن تفسير الظاهرة؟ عن طريق شيئين: عدم نشر صورة تاريخية واقعية عن الإسلام والمسلمين في الغرب. فقط صورة البعبع التي تم نشرها وتعميمها بعد تفجيرات «القاعدة» وبن لادن هي المسيطرة. إنها الصورة الأكثر سوادا والموروثة عن العصور الوسطى أيضا. ثانيا: عن طريق إهمال الحكومات الغربية للجاليات الإسلامية إذ ترفض فتح كليات لتدريس الدين الإسلامي بطريقة علمية حديثة كما تفعل المعاهد الكاثوليكية والبروتستانتية.

وما دام الأمر كذلك فإن المسلمين الفقراء عموما لن يستطيعوا إعطاء صورة مستنيرة عن دينهم وتراثهم في أوروبا. وسوف يظل اليمين المتطرف يستخدمهم كبعبع لتخويف الناس منهم في حين أنهم هم الخائفون والقلقون على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم بسبب البطالة والعطالة والتهميش والاحتقار. هناك فرق آخر بين ضربة 11 سبتمبر (أيلول) الإجرامية ومجزرة أوسلو التي لا تقل إجرامية: هو أنه حتى حركات اليمين المتطرف الأوروبي أدانت بوضوح المجزرة الأخيرة هذا في حين أن غزوة نيويورك لقيت الترحيب والتصفيق من قبل معظم الحركات الأصولية في العالم الإسلامي بل وخارجه. ولم تدنها الشخصيات الإسلامية الأخرى إلا من رؤوس الشفاه كرفع للعتب أو كتلبية لطلب هذا المسؤول أو ذاك.

هناك سؤال ثالث يفرض نفسه: هل يعقل أن تظل هناك شخصيات مريضة بالأصولية إلى مثل هذا الحد حتى في بلدان أوروبا التي استنارت دينيا وعلميا وفلسفيا منذ مائتي سنة على الأقل؟ نعم يعقل. فمؤرخو الحداثة يقولون لنا إنه تظل هناك جزر معزولة في المجتمع حتى بعد أن يصبح حديثا مستنيرا من أقصاه إلى أقصاه. تظل هناك أقلية تعيش بعقولها في العصور الغابرة وأجسادها في العصور الحديثة. تظل هناك أقلية متزمتة رافضة لأفكار الحداثة بل وتخونها وتكفرها كما يفعل هذا الأفاق النرويجي. فهو يلقي باللائمة على الحركات الماركسية المؤمنة بتعددية الثقافات وانحلال الثقافة الأوروبية في الثقافات الأخرى وبالأخص الإسلامية، والعياذ بالله! وأي شخص محدود المعرفة يعرف أنه لم يعد هناك من أثر يذكر للماركسية في أوروبا بعد سقوط الشيوعية وجدار برلين. ولكنه يقصد بالماركسية هنا كل الحركات الإنسانية والتقدمية الأوروبية بدءا من عصر النهضة الإيطالية وحتى اليوم. وبالتالي فيريد تسفيه كل ذلك تحت اسم الماركسية.

هناك شيء آخر أصبح مؤكدا الآن: وهو أنه حصل تحالف وثيق بين حركات اليمين المتطرف الأوروبي وحركة اليمين الصهيوني الأوروبي والعالمي أيضا. وهذه ظاهرة جديدة نسبيا لأن اليمين المتطرف الأوروبي كان من ألد أعداء اليهود سابقا. ولكن يبدو أن كره الإسلام والخوف منه جمع بين الطرفين مؤخرا. والدليل على ذلك أن هذا المجرم النرويجي يشيد بنتنياهو والحركة الصهيونية باعتبارها خط المقاومة الأول ضد الإسلام والعرب. وهذه الإشادة تحرج حكام إسرائيل ولذلك نلاحظ أن وسائل الإعلام الغربية تحاول تمريرها تحت ستار كثيف ومريب من الصمت.

ولكن لا أحد يستطيع أن يحجب الحقيقة. فالشبيبة الرائعة التي مزقها الوحش إربا إربا في جزيرة «يوتوياه» كانت ترفع في مؤتمرها المغدور شعارات تدعو لمقاطعة إسرائيل والاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل في الأمم المتحدة. وقد رد عليها وزير الخارجية قائلا: لا فائدة من مقاطعة إسرائيل ولكن ينبغي أن تكون للفلسطينيين دولتهم، وينبغي أن يتوقف الاحتلال، وينبغي هدم الجدار. وينبغي أن يتحقق كل ذلك فورا من الآن. تحية إذن ومحبة للشهداء الذين سقطوا هناك. وينبغي علينا منذ الآن فصاعدا ألا نأخذ الغرب ككتلة واحدة صماء بكماء عمياء معادية لنا ولقضية الحق والعدل كما يفعل الأصوليون المتطرفون الذين هم حلفاء موضوعيون لمجرم أوسلو. فالشبيبة النرويجية في قسمها الأعظم لا يمثلها إطلاقا هذا الوحش المفترس. على العكس تماما. فهي مفعمة بالأفكار النهضوية والتنويرية والإنسانية التي صنعت مجد الحداثة والحضارة الأوروبية منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم.

بقيت كلمة أخيرة: هذا الرجل لا علاقة له بالمسيحية الحقة، دين المحبة، مثلما أن المتطرفين عندنا لا علاقة لهم بالإسلام الحنيف، السمح، المتسامح. والدليل على ذلك أنه يهاجم الكنيسة البروتستانتية التي ينتمي إليها عائليا هجوما عنيفا بقدر ما يدافع عن الصهيونية المتطرفة والنازية. بل ويهاجم البابا الذي كنا نعتبره رأس الحربة ضد الإسلام منذ محاضرته الشهيرة في جامعة راتسبونغ. إنه يصفه بأقذع الأوصاف لأنه اختار طريق الحوار مع المسلمين. فهو ينعته بأنه شخص جبان، رعديد، فاسد، غير كفء أو غير جدير باحتلال منصبه، وبالتالي غير شرعي. لماذا؟ لأنه لا يدافع عن المسيحية بالقدر الكافي ولا يتصدى للمسلمين كما فعل البطل شارل مارتل في معركة بواتييه!

هكذا نكون قد فهمنا نوعية الرجل. ولكنه ليس فردا معزولا إلى الحد الذي نتصوره. صحيح أن الغرب في مجمله أدانه إدانة قاطعة. ولكن ينبغي العلم بأن حركات اليمين المتطرف في تصاعد مقلق في شتى الأقطار الأوروبية. وهذا ما حذر منه أحد كبار القادة الأوروبيين ذوي النزعة الإنسانية، ثاباتيرو. كما حذرت منه جريدة «البايس» الإسبانية التي انتقدت بشكل صريح موقف قادة اليمين الأوروبي الحاكم الذين يغضون الطرف عن أطروحات اليمين المتطرف بل ويلتقون معه جزئيا في حربه ضد التعددية الثقافية في البلدان الأوروبية: أي ضد الاختلاط الإسلامي - الأوروبي الذي سيغني أوروبا وينعشها إذا ما حصل. وسوف يحصل! فالإسلام الأخلاقي الروحاني حظ لأوروبا بقدر ما أن أوروبا التنويرية المفعمة بروح العقلانية العلمية والفلسفية حظ للإسلام.

والمستقبل لحوار الحضارات وتقاطعها وتحالفها من أجل خدمة البشرية جمعاء وليس أبدا لصدام الحضارات والأحقاد التاريخية.