الليل مربوط بأول النهار والنهار مربوط بآخر الليل!

TT

كل ما أعرفه أنني ولدت وأوراق اللعب في يدي.. سمعت أن أبي كان لاعبا كبيرا.. وسمعت أن جدي كان كذلك..

ويقال إنه ربح مبلغا من المال واكتشف زملاؤه أنه كان يخفي الأوراق تحت قدميه.. فضربوه وقتلوه.. ولما سألت أمي مرة عن سبب وفاة أبي كانت تقول: إنه كان يدمن الشراب.. وعرفت بعد ذلك أن أمي كانت تخفي الحقيقة عني.. ولكني عندما كبرت آمنت أن أمي لم تكن تكذب.. ولم تكن تحاول إخفاء الحقيقة.. وإنما قالت الصدق.. فلعب الورق كالخمر بل أقسى من الخمر.. ولاعبه لا يفيق.. بل إنه لا يصحو أبدا.. إنه مفتوح اليدين.. جيبه لا يشبع ويده لا تقنع!!

والآن أستطيع بعد هذه المقدمة أن أبدأ قصتي.. وأن أقدم نفسي..

أنا الطفل الوحيد لأمي.. لم أر أبي كما ذكرت.. ولا أعرف كيف أدخلتني أمي المدرسة.. وكنت أراها تخرج مع الشمس وتعود مع الليل.. وعرفت بعد ذلك أنها تعمل في أحد البيوت.. وعرفت أنها ترهق نفسها بالعمل.. ولم أكتشف إلا أخيرا أن كل هذا الإرهاق كان من أجلي أنا.. وأمي يكفيها القليل من الطعام والشراب والقليل من الملبس.. إنها كانت تحتفظ بثوب تذهب به إلى السوق.. وكانت تدعو لأبي في صلاتها ولابنها الوحيد.. الذي يشبه أباه في كل شيء.. في حركاته العصبية.. وفي ميله للعب واللهو.. وفراره من المدرسة إلى البيت!

وحاولت أمي بكل قواها وكل دموعها وتوسلاتها أن تردني عن اللعب.. عن النوم في الطريق.. عن ضرب الأطفال وإسالة دمائهم.. ولكن أمي لم تفلح.. حاولت أمي أن تجعل مني إنسانا أليفا.. أن تجعلني تلميذا نظيف الملابس.. نظيف الكلام.. نظيف اليدين.. ويؤسفني أن أقول إن أمي لن تفلح .. ويئست أمي.. وبلغ بها اليأس أقصى درجاته.. فقالت لي يوما:

اسمع يا ابني.. إنني مريضة.. وقد عملت كل شيء من أجل صحتك وتعليمك ولكن لا أستطيع.. إنني حاربت كل الأعداء فيك.. حاربت فيك طباع والدك وحاربت فيك استخفاف خالك.. وحاربت فيك ضعفي.. ولا أمل لي في سلام أو راحة معك.. والأمر الآن لك.. لقد قررت أن ألزم البيت.. وأن أقنع بالقليل من المال والحمد لله..

ولم أجد ما أقوله لها.. وإنما خرجت من البيت ولم أعد.. وانتقلت من بلد إلى بلد.. تسبقني سمعتي وشهرتي كأعظم لاعب للورق في كل هذه المنطقة.. قال الناس عني إنني الساحر الصغير.. وقالوا العملاق ذو الأصابع الذهبية.

وكانت هذه الألقاب تملأ نفسي بالغرور.. إنها تشبه الألقاب التي يطلقونها على أبطال الرياضة.. وكنت إذا ترددت على المقاهي أشار الناس إلي.. وأفسحوا لي الطريق.. وكنت لا أعرف متى يبدأ الليل.. ولا متى يبدأ النهار.. الليل مربوط بأول النهار.. والنهار مربوط بآخر الليل.. والنهار والليل يدوران حولي.. كما يلعب الأطفال الصغار حول أمهم وأنا سعيد بهذا كله!

وفي يوم مررت بأحد المساجد.. وصليت الظهر لأول مرة في حياتي كلها.. وبكيت لأول مرة في حياتي.. وأخذت قرارا واضحا لأول مرة أيضا.. وبدلا من أن أتجه إلى بيتي.. اتجهت إلى بلدتنا التي فررت منها منذ عشرين عاما.. إلى أمي.. إلى حضن ست الحبايب!