الثورة القادمة في أميركا

TT

العالم العربي المشغول بمتابعة التطورات المأساوية من سوريا إلى ليبيا حيث تواجه الأنظمة انتفاضة شعوبها بقمع دموي لا يعرف الحدود، ربما لم يتابع باهتمام كبير فصول واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه أميركا منذ عقود طويلة. فالأزمة التي عرفت باسم «أزمة الديون» لم تشغل أميركا وحدها بل شغلت العديد من عواصم العالم، وجعلت أسواق المال تحبس أنفاسها خوفا من انهيار ربما تتجاوز تداعياته كل الأزمات الأخرى التي عصفت بالاقتصاد العالمي وبالنظام المصرفي الدولي، وما تزال آثارها مستمرة، وستكون لها انعكاساتها على العالم العربي أيضا.

فعلى مدى أيام طويلة أخذ ساسة واشنطن اقتصاد بلادهم والاقتصاد العالمي رهينة لكي يمارسوا سياسة حافة الهاوية، ويضغط كل طرف على الآخر لتمرير برامجه وأفكاره الآيدولوجية، وعيونهم مصوبة نحو انتخابات الرئاسة الأميركية العام المقبل التي بدأت معركتها مبكرا جدا بين الديمقراطيين والجمهوريين. لذلك لم يكن غريبا أن تصف صحيفة «واشنطن بوست» الأزمة والمفاوضات العسيرة من أجل التوصل إلى حل وسط بين الحزبين، بالسيرك السياسي، معتبرة أن الحل الذي تم التوصل إليه «يجب أن لا يشرف أحدا» ممن شاركوا في سياسة حافة الهاوية. صحيح أن أزمة الدين العام الذي بلغ أزيد من 14 تريليون دولار، ليست جديدة في أميركا، لكن شراسة المعركة التي دارت بين السياسيين في واشنطن، والظروف الاقتصادية التي يمر بها الأميركيون، جعلت الأزمة مختلفة هذه المرة خصوصا أن أميركا كانت مهددة بالعجز عن سداد التزاماتها المالية بكل ما يعنيه ذلك لاقتصادها ومكانتها الدولية، وللاقتصاد العالمي ككل.

الأميركيون بدوا غاضبين من ساستهم ومتشائمين أكثر من أي وقت مضى إزاء أزمتهم الاقتصادية، وربما لو كانوا في طباعهم مثل الشعوب الأوروبية في اليونان أو فرنسا أو إسبانيا، أو لو كانوا في فورة أو ثورة على الطريقة العربية، لكانوا قد خرجوا في مظاهرات بالشوارع تطالب بإسقاط النظام، أو بالأحرى بتغيير أسلوب ساسة واشنطن في التعاطي مع أزمة الدين العام والأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة.

استطلاعات الرأي تقول إن الأميركيين قلقون على أمورهم المالية والمعيشية بسبب الكساد، وخائفون على وظائفهم (24 في المائة قالوا إنهم أو أحد أفراد عائلتهم فقدوا وظائفهم، ونسبة البطالة الحالية تعد الأعلى منذ ثلاثينات القرن الماضي). كما أنهم عبروا عن قلق شديد على مستقبلهم في ظل الضغوط على نظام التقاعد ومشكلات التأمين الصحي. هذه بلا شك صورة قاتمة لأميركا تبدو فيها غارقة في مشكلاتها وتئن تحت وطأتها إلى الحد الذي جعل 40 في المائة من الأميركيين يقولون إن الأزمة الاقتصادية الحالية تمثل بداية لانهيار متواصل.

ماذا يعني ذلك؟

أميركا بالتأكيد ليست على شفا انهيار كامل، لكنها في أزمة قد تؤدي إلى تأكل مكانتها الدولية ونفوذها العالمي تدريجيا. فهي تعاني اليوم من أعباء الحروب الخارجية خصوصا حربي العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب، ومن تبعات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. كما أنها تواجه تحولا تدريجيا في ميزان القوى مع صعود التنين الصيني، والبروز التدريجي للهند. فالصين اليوم تنافس أميركا على صدارة الاقتصاد العالمي، وتعتبر أكبر دائن لواشنطن إذ اشترت ما يزيد على تريليون دولار من سندات الخزانة الأميركية، وتحتفظ بمعظم احتياطيها من النقد الأجنبي بالدولار. هذا الأمر يعطي الصين نفوذا كبيرا في أميركا، وفي الوقت ذاته يعطيها قدرة هائلة على تهديد الاقتصاد الأميركي.

في فترة الحرب الباردة بين الأميركيين والسوفيات، أو بين الشرق والغرب، كان هناك ما يعرف بتوازن الرعب الذي يقوم على التخويف بالترسانة النووية وبمقدرة كل طرف على توجيه ضربة قاصمة للطرف الآخر لو نشبت حرب بينهما لن يكون فيها منتصر. اليوم لا يعتمد توازن الرعب بين أميركا (أو المعسكر الغربي) والصين على القدرات العسكرية أساسا، بل على القوة الاقتصادية والمالية. فالغرب يحتاج إلى الصين وقدراتها المالية واحتياطيها النقدي المستثمر أساسا في الدول والأسواق الغربية، بينما الصين التي تعد الآن بمثابة مصنع العالم، تحتاج إلى الأسواق الغربية لتسويق بضاعتها ولاستثمار فائضها النقدي فيها. وفي ظل هذه المعادلة فإن كل طرف يستطيع إيذاء الآخر ماليا واقتصاديا ولكنه في الوقت ذاته سيتأذى من مثل هذه الخطوة. لهذا السبب لم يكن غريبا أن نرى وكالة الأنباء الصينية توجه نقدا لاذعا لساسة واشنطن وتصف معالجتهم لأزمة الديون بالتصرف اللامسؤول وتتهمهم بأخذ الاقتصاد العالمي رهينة في مواجهة حزبية.

أين العالم العربي من كل ذلك؟

ليس سرا أن الكثير من أموال العرب مستثمرة في أميركا والأسواق الغربية، كما أن جل احتياطاتهم النقدية موجودة بالدولار، وبالتالي فإن أي أزمة مالية واقتصادية كبرى في أميركا ستضر بالعالم العربي. المشكلة أن البدائل قليلة في الوقت الراهن. فأوروبا غارقة في أزمتها المالية خصوصا في أعقاب أزمة اليونان ومشكلات آيرلندا، والمخاوف على اقتصاديات إسبانيا والبرتغال وإيطاليا. اليابان من جهتها تعاني من المشكلات الاقتصادية وتحاول تجاوز تداعيات الزلزال والتسونامي الأخيرين والتكلفة المالية والاقتصادية الهائلة الناجمة عنهما. لكل ذلك سمعنا بعض الاقتصاديين يقول إبان أزمة الديون الأميركية إنه لولا مشكلات أوروبا واليابان، لكان المستثمرون هجروا الدولار الأميركي إلى عملات أخرى.

هناك بعد آخر للأزمة الأميركية في انعكاساتها المحتملة عربيا. فواشنطن الغارقة في مشكلاتها لن تكون قادرة على تقديم الدعم المالي والاقتصادي للثورات العربية، كما أنها لن تستطيع لعب دور حقيقي في تحريك عملية السلام، خصوصا أن معركة انتخابات الرئاسة الأميركية التي تحل العام المقبل بدأت مبكرة جدا هذه المرة، والمؤشرات تدل على أن الأولوية ستكون للاقتصاد أولا وثانيا وثالثا.

إن معركة الديون لم تنته في أميركا، بل سنرى فصولا منها بأوجه مختلفة خلال الفترة المقبلة، وستزداد المواجهة بين الجمهوريين والديمقراطيين شراسة. فالناخب الأميركي يبدي تبرما شديدا من تصرفات ساسته، ولا يخفي مخاوفه على مستقبله في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، ولا يبدو معروفا إلى أين سيوجه أصواته الاحتجاجية في الانتخابات المقبلة إذا لم تنفرج الضائقة الراهنة. أما العالم فسيحبس أنفاسه مرة أخرى في عام الانتخابات الأميركية إذا لم يتم تجاوز الأزمة المالية العالمية، وبقيت أميركا عالقة في الكساد، بينما سياسيوها يلعبون «الروليت الروسي» بالاقتصاد العالمي.

[email protected]