جوهر العنف الرمزي في تونس

TT

لست بحاجة إلى بذل جهد فكري كبير حتى تدرك مدى يسر إنجاح الثورة التونسية والمضي قدما بتونس نحو مسافات مهمة في النجاح ومزيد من التقدم.

فهذا البلد الذي شاء التاريخ أن يحتضن الشرارة الأولى للثورات العربية، ينطوي على أسباب قوة، من أهمها الأشواط المهمة التي قطعت في مسار التحديث الاجتماعي، وأيضا عافيته من ويلات الطائفية. ناهيك عن ثقافة تونسية مجبولة تاريخيا وحضاريا على الانفتاح والتعاطي مع أكثر المشكلات تعقيدا من منظور وسطي، الشيء الذي طبع الشخصية التونسية بسمتي المرونة والعقلانية، وغير ذلك من الخصائص المضادة للراديكالية وللتطرف في النظرة إلى الأشياء والأسئلة.

ولكن يبدو أن هذه الأرضية الخصبة ليست خالصة من المشاكل، وعملية إنجاح الثورة التونسية ليست باليسر الظاهر أو المتوقع والمفترض.

ولعل ما شهدته بعض المناطق في تونس مؤخرا من أحداث عنف، وأيضا ما عرفته الساحة السياسية من فجوة وانقسامات وتراشق في الصميم.. كل هذا يخبرنا بأننا أمام حالة من العنف الرمزي بامتياز.

ودون الدخول في التفاصيل وفي ما لا يُقال علنا وفي ما تحتكر الخوض فيه الكواليس السياسية، نعتقد أن هناك معركة رمزية قائمة الذات اليوم في تونس. معركة كانت ظاهريا قبل 14 يناير (كانون الثاني) محسومة بيد الدولة وأجهزتها ولكنها ليست كذلك اليوم بالنسبة إلى مشهد سياسي يسعى إلى الاحتكام إلى قانون التوافق وثقافته.

وبالتالي فجوهر المعركة التي تحمل عناوين متضاربة وتوصيفات أقل ما يُقال عنها إنها غير دقيقة، هو صراع بين تصورين ثقافيين اجتماعيين: تصور يدافع عن مسار الحداثة التونسية ويطمح إلى المزيد، وتصور آخر يضعه أصحابه في مقابل التصور الأول وينتصرون فيه إما للهوية الإسلامية بنظرة دوغمائية جزئيا أو بدوغمائية شاملة كما هو حال السلفية التي أعلنت عن وجودها بالقوة في الواقع الاجتماعي، وهو واقع يسمح لها بتلبية وظيفتين اثنتين: محاولة فرض أنموذجها السلفي وتعميمه اجتماعيا وذلك في نفس الوقت الذي تلبى فيه الوظيفة الثانية المتمثلة في بعث رسائل سياسية على رأسها الإعلان العنيف عن الوجود.

إن هذه المعركة التي يراها الكثيرون في تونس شبه محسومة لصالح التحديث والتعددية والغياب الكلي للتطرف والتصورات والمواقف الراديكالية آيديولوجيا وسياسيا، مثل هذه المعركة لا تبدو كذلك بالنظر إلى الحجم الذي اتخذته أحداث العنف والمحمول الدلالي الذي بدأ يثير مخاوف التونسيين. ذلك أننا في لب محاولة قلب موازين القوى كمدخل رئيسي لقلب موازين التصورات.

لا شك في أن المجتمع التونسي والتطرف نقيضان لا يجتمعان إلا كي يفترقا سريعا، ولكن حتى نضمن تجاوز مثل هذه المعارك المقنعة والغامضة قصدا والخاسرة رغم إنهاكها للمجتمع، لا بد من وقفة مجتمعية ونخبوية صارمة تقينا سيناريوهات تؤجل السرعة التي تستوجبها الملفات المتراكمة أمام التونسيين والأجدى بالجهد والانتباه والأعصاب.